الشارقة: علاء الدين محمود
صدرت الرواية في نسختها العربية عن دار روايات إحدى شركات مجموعة «كلمات»، في طبعتها الأولى عام 2020، بترجمة: زوينة آل تويه، والرواية تغوص عميقاً في النفس البشرية حيث الأماكن المظلمة لتحيك تفاصيل تكشف عن طبائع الإنسان، وسيجد القارئ متعة كبيرة في تتبع الحكايات المتنوعة التي تشكل قوام الرواية، وربما يستعيد المتلقي الكثير من المواقف والمشهديات من روايات أخرى للكاتب مشابهة لعوالم هذه الرواية، فدائماً ما يلجأ أونداتجي إلى صناعة تفاصيل تتنقل بين أعماله المختلفة التي تشكل بالفعل مشروعاً سردياً مغايراً ويحمل بصمة خاصة.
فضاء
تدور معظم تفاصيل العمل في سفينة هي بمثابة الفضاء المكاني، وتتناول مجتمع ذلك المكان وأثره في حياة البشر الذين هم على متن ذلك المركب، خاصة أنهم يخوضون رحلة نحو مكان جديد هو بمثابة أرض الميعاد والأحلام والطموحات، هي رحلة الانتقال من الشرق إلى الغرب، من حياة الفقر والبؤس نحو حياة أخرى يطمحون في أن تكون أفضل وأكثر رأفة بهم ورحمة، يحملون هوية وثقافة مختلفة، ربما سيحتفظون بها، أو يستبدلونها بتلك السائدة في الأرض الموعودة، ولابد أن خيال هؤلاء، ومعظمهم من فئة الشباب، يسابق عباب السفينة، ويصنع عالماً ساحراً، حيث إن الغرب في مخيلة إنسان الشرق هو بمثابة جنة، ومكمن تحقيق الأحلام الشاردة خاصة أن أجواء الرواية تجري في فترة الخمسينيات، أي مرحلة الخروج من الاستعمار الذي كان جاثماً على بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، وهنا تكمن أيضاً مفارقة البحث عن الحرية في بلاد المستعمر، لذلك تميز العمل بالتعقيد بعض الشيء، وهو أمر ناتج عن تعقد الحياة البشرية نفسها، وتلك هي العقدة التي انطلق منها المؤلف في صناعة هذه القطعة السردية المميزة.
حكاية
تبدأ حكاية الرواية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، عندما يركب صبي اسمه مايكل في الحادية عشرة من عمره باخرةً تنطلق من سريلانكا ذاهبةً إلى بريطانيا، تشق في طريقها البحر الأحمر وقناة السويس، ويشهد الصبيّ ميناء عدن، وأبها، وجدّة، وبورسعيد، ويجلس الصبي في أوقات الطعام إلى «مائدة القطّ»، وهي أبعد الموائد عن مائدة القبطان، ويجلس إليها أيضاً مجموعة من «الكبار»، ذوي الشخصيّات الغريبة، وصبيّان في سن بطل الرواية مثل: كاسْيَس ورام الدّين، حيث يُغامر هؤلاء الصِّبيان على ظهر الباخرة أحراراً مثل زئبق سائل، يعرفون عن كثب الأغنياء واللصوص، والعلماء والمتوحّدين، ويتعقّبون السّجين الذي لا يُسمح له بالخروج إلّا منتصف الليل معرّضين أنفسهم لخطر لا يُدركون مداه، هي رحلةٌ من العواصف والشّموس ستبقى في خيالهم طوال حياتهم، سيشكّون في حدوثها، لكن الشخصيات الغريبة التي عاشروها علّمَتهم أموراً ستُشكِّل شخصياتهم إلى الأبد، فقد ركبوا الباخرة أطفالاً، وترجّلوا عنها ناضجين.
ترسم الرواية صوراً متعددة لمجتمع السفينة في تلك الرحلة الطويلة، وتضم أشكالاً وأنواعاً من البشر، فيهم الطيب والشرير، وكذلك العالم والفاسد، وتصبح تلك السفينة مسرحاً للصبية الصغار الذين أصبحوا أصدقاء لمايكل، خاصة كاسْيَس ورام الدّين، حيث جمعتهم الكثير من الصفات المشتركة، فيقومون بالمغامرات داخل السفينة إلى حد يتجاوزون فيه كل الحدود، ويشمل ذلك مراقبتهم لذلك المزيج المتنوع من البشر من حيث الثقافة والمعتقدات، وهي مغامرات لا تخلو من الشقاوة وممارسة الخدع تجاه الآخرين فقد تميزوا بالنشاط والحيوية الشديدة إلى حد الوقوع في المشاكل مع الكثير من الشخصيات الموجودة على ظهر السفينة.
أثر
تترك تلك الرحلة أثرها الكبير على حياة هؤلاء المراهقين، خاصة مايكل الذي يتابع السرد مسيرة حياته وتطور شخصيته من مرحلة المراهقة إلى الشباب، ويضيء السرد على تلك الرحلة وكيف كانت منعطفاً كبيراً في حياة مايكل سواء عمره الذي قضاه في بريطانيا أو في إيطاليا في ما بعد، ففي الأصل كان مايكل مهاجراً في تلك السفينة من أجل اللحاق بوالدته الموجودة في لندن بعد أن انفصلت عن أبيه، وكان قبلها يعيش مع صديق للعائلة لم يحسن التعامل مع الصبي المراهق، ويعرج السرد على جانب من حياة مايكل، ذلك المتمثل في علاقة تربطه بابنة عمه إيميلي، وهي أشبه بعلاقة حب في تلك الفترة من صباه، إضافة إلى خيوط ومنعطفات أخرى يكشف عنها السرد شيئاً فشيئاً، لكن النقطة الرئيسية هي أثر تلك الرحلة في تكوين وجدان بطل القصة وتجاربه في حياته اللاحقة.
سيرة
أشار كثير من النقاد إلى أن تلك الرحلة تحمل بين طياتها جانباً من السيرة الذاتية للكاتب أونداتجي، خاصة وأن تفاصيل العمل تحمل الكثير من التشابه بين ما ورد في الرواية وبين حياة المؤلف نفسه، لكن أونداتجي أكد أن جميع ما جاء في العمل هو محض خيال.
استطاع أونداتجي أن ينجز قطعة سردية آسرة وشديدة التميز، محتشدة بالتفاصيل الصغيرة والمشاهد وقوة الوصف واللغة الشاعرية البديعة، وربما خبرته السينمائية ساعدته في صناعة الصور الجذابة والمؤثرة والمفعمة بالحركة والحيوية، مع براعة في رسم الشخصيات التي تعلق في ذهن القارئ وتوظيف الكوميديا والسخرية دون إسفاف.
كغيرها من أعمال أونداتجي، وجدت «مائدة القط»، صدى كبيراً بين القراء والنقاد والصحف، بل إن بعضهم فضلها على جميع رواياته لما تحمل من قوة المشاعر والعاطفة وثيمات الحب والانتماء، وشبهها بعضهم بالقصص الخيالية التي تثير ذكريات الرهبة التي تسود أحلام البشر، حيث تحدثت مجلة «نيويورك تايمز بوك ريفيو»، عن الرواية بالقول: «لقد فعلها أونداتجي مرة أخرى على غرار تحفته (المريض الإنجليزي)، واستطاع أن ينجز عملاً يحمل متعة نادرة».
إضاءة
يعد مايكل أونداتجي المولود في سريلانكا، عام 1943، واحداً من أهم المؤلفين في الوقت الراهن، نال الجنسية الكندية، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة تورنتو ودرجة الماجستير من جامعة كوينز في كنجستون بولاية أونتاريو، وقام بالتدريس في جامعات ويسترن أونتاريو ويورك وجليندون كوليج، وهو شاعر وسيناريست ومخرج أفلام، وتميز في عالم الرواية، حيث نالت أعماله إشادة واسعة، وبصورة خاصة «المريض الإنجليزي»، و«ظلال على التايمز»، و«مائدة القط»، و«ضوء حرب»، ونال العديد من الجوائز الأدبية المرموقة.
اقتباسات
«تمتعه بالصفاء هو نتاج اختياره الحياة التي يريد أن يعيشها».
«اكتشف الدرع التي تحتوي شخصيتك، هكذا ستجد طريق حياتك».
«لدينا جميعاً عقدة قديمة في القلب نرغب في فكها»
«ما هو مثير للاهتمام ومهم يحدث في الأغلب سراً».
«لا شيء ذو قيمة دائمة يحدث على الإطلاق».
«أولئك الذين لديهم السلطة، يواصلون الانزلاق
على الطريق الذي صنعوه لأنفسهم».
«لدي قلب بارد، إذ كنت حزيناً، فإني أحرص على
ألا تكون الخسارة كبيرة».
0 تعليق