«الديواني الجلي».. جمـال يُمَهِّــد سـبيل الهمّــة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يزال العديد من الفنانين يثبتون براعتهم في الخط العربي، ويبرزون ما يتميز به هذا الفن من جماليات أخاذة، تستهوي النفوس التائقة إلى إشباع رغباتها مما يجود به الإبداع، حيث تكشف الفنون للمبدعين عن مكامن كنوزها، فينطلقون في تجسيدها في أعمالهم التي تشي بمستوى الجهد الذي بذلوه في سبيل ذلك، ومن هؤلاء: الخطاط السوري عبد الناصر المصري.
ينتمي الفنان عبد الناصر المصري إلى تلك المدارس الخطية التي تعشق الخطوط التقليدية، ويسعى إلى تقديم أعماله بأساليب تقليدية، لا تخلو أحياناً من بعض اللمسات التجديدية، إلا أنه يحافظ على أن تظل بصمة الأصالة بارزة في أعماله، معتمداً البساطة والوضوح، دون أن يخفَى ملمح الفنيات العالية في لوحاته الخطية.
حيث يطبع أسلوبه بذوق خاص، يمزج في استلهامه بين مختلف الفنون الإسلامية العربية، في تصاميم حديثة كما يتجلى في لوحته التي بين أيدينا.
همّة
اختار المصري للوحته شطراً شعرياً شهيراً للشاعر المتنبي يقول فيه: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»، وهو من شعر المتنبي الذي ينضح حكمة، ويدفع للثقة في النفس، وتقوية العزيمة وتعظيم الهمّة، للوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه، وقد كتبها بخط الديواني الجلي، مستغلاً ما يتميز به من جمالية توفرها خصائصه العديدة، كقابليته لاستدارة الحروف وتقويسها وتداخلها، وتراكب الخطوط، واستخدام العلامات الزخرفية وحركات التشكيل والنقاط لملء الفراغات بين الحروف والكلمات، وهي مميزات قد تكون على حساب سهولة قراءة المتلقي للوحة أحياناً، بالإضافة إلى كونه خطاً زخرفياً بالأساس، قابلاً لتنويع التصاميم، من خلال مرونته للابتكار والتجديد على صعيد البناء الشكلي للتكوين، وهو ما شحذ همّة الفنان ليتمكّن من تقديم هذا العمل في هيئة تشدّ المشاهد إلى الغوص في المزيد من جماليات الخط العربي.
ملامح فنية
صمّم المصري لوحته في تكوين خطّي على شكل دودة عظيمة، مستلهما إرادة الدودة التي تنفذ بها كل ما تصبو إليه في عزم لا يلين، حيث تقوم في ذلك باختراق أعتى أنواع الصخور والأخشاب، والعيش في أقسى الظروف، وكأنه يريد من المشاهد أن يستحضر ذلك وهو يقرأ بيت المتنبي المنقوش خطوطاً في هذه اللوحة.
وانطلق في الكتابة بشكل تصاعدي من اليمين، فكتب «على» مُدوِّراً الجزء السفلي من حرف العين، ليجعل حرف الجر بأكمله في هيئة ضخمة، تنبيهاً على أهمية ما سيأتي بعده، ثم كتب «قدر» بشكل كبير كذلك مُقوِّساً حرفي الدال والراء ليتناسقا بصرياً في تماثلهما المتوازي على هيئة واحدة، وليوحي بمعنى الكلمة الدالّ على المماثلة والمشاكلة، ثم كتب «أهل» مقوّساً ألفها حتى صار على هيئة لام ليماثل لامها كذلك في تناسق بصري أيضاً، وكأنه بذلك التماثل يشير إلى معنى الكلمة كذلك، ثم كتب «العزم» مركّباً ألف تعريفها على «أهل»، للدلالة على أن العزم لا يعني شيئاً إلا بأهله الذين يأخذون به لتحقيق ما يصبون إليه، وقد ذيّل طرف الميم بلمسة معهودة في تكوينات الديواني الجلي التقليدية، ثم كتب «تأتي»، جاعلاً مقطعها الأول في الأعلى والثاني أسفله، للإشارة إلى معنى الكلمة، فكأن ما يأتي غيث يتنزّل على قدر الساعي المُجِدّ فيه، بقوة إرادته، ثم كتب «العزائم»، مركّبا بعضها على بعض وجاعلاً إيّاها كأنما ترقى إلى الأعلى، وهي إشارة إلى عظم العزائم وعُلُوّ شأنها الذي يُعلي من شأن الساعي في سبيله.ولم يكتف المصري بجمال خطوطه، بل جعلها تفترش أرضية مزخرفة بالمُنمنمات الزاهية، أكسبت العمل شاعرية بصرية طافحة، خاصة حين بدت مؤطّرة بدرجات من اللون البرتقالي والذي يكمل مع لون الحبر الأسود الدال على الثقة؛ دلالات نص اللوحة، فهي لوحة همّة ممهّدة بالجمال.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق