إتقان فن كتابة الخط العربي ليس سهلاً، خاصة إذا كان الفنان أو الخطاط من جنسية ليست عربية، وثانياً إذا كانت مشاركة هذا الخطاط في أصعب أنواع الخطوط وهو الثلث. تتجلى قدرة هذا الخطاط على إبداع لوحاته من إصراره على تعلم فن الخط، وثانياً من موهبته وتصميمه على الخلق والابتكار، وهذا ينطبق على الفنانة والخطاطة الروسية نتالي توروبيتسينا، التي سبق لها وشاركت في إحدى دورات معرض دبي الدولي للخط العربي، من خلال لوحة بعنوان (الله يحب كل الحروف).
العبارة المشار إليها تحمل فهماً صوفياً، يحيل على تراث هؤلاء المتصوفة مع الحروف، خاصة حرف الألف، الذي -كما يشيرون- يتمتع بروحية ونورانية تميزه عن بقية الحروف، وقد سبق أن احتفى عدد من هؤلاء المتصوفة بالحرف العربي باعتباره ليس مجرد شكل تجريدي له دلالة معينة، وإنما أيضاً بوصفه ينطوي على سر أعمق، أو باطني، خلف الشكل المشاهد الذي تراه العين، فثمة أسرار ومكنونات حافلة بالمعاني المحجوبة.. ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى ما قاله ابن عربي بشأن الحرف «اعلم أن الحروف سر من أسرار الله، ومن أشرف العلوم المخزونة عند الله تعالى، وهو من العلم المكنون المخصوص له أهل القلوب الطاهرة».
تكوين
استطاعت الفنانة نتالي توروبيتسينا أن تخط لوحتها بإبراز قوة وليونة هذه الحروف، وقابليتها للتشكيل، بتركيزها على الحروف: (الألف والحاء والواو) وتزيين لوحتها بكثير من الحروف الإعرابية، وإذا عرفنا بأن الثلث هو من أصعب الخطوط العربية المعروفة، فإن قدرة هذه المبدعة على إتقان لوحتها يستحق الوقوف عنده، ويبدو أنها -كما هو شأن معظم الخطاطين، قد قرأت جيداً المعنى الديني والروحي للحرف أو الكلمة في التراث الإسلامي، ومن حيث الشكل فقد أبرزت ليونة وقوة الخط الثلث في تلك التفاصيل الدقيقة لكل حرف على حدة، ولنتمعّن كيفية كتابة نتالي توروبيتسينا للفظ الجلالة الله، فقد اختارت للفظ الجلالة مكاناً في الأعلى في قمة المنظور الفني، في أعلى مكان في اللوحة، لما يستحقه جل وعلا من عبادة تليق باسمه وهو القادر ذو القوة، وخالق كل شيء.
التزمت الفنانة بقواعد وموازين خط الثلث، وما ينطوي عليه من متانة التركيب وبراعة التأليف، وقد حرصت على إبراز عنصر التماثل في لوحتها الخطية كما نشاهده -بشكل أكبر في حرفي (الواو) و(الحاء) كما هو في كلمتي (يحب) و(الحروف) فكان تصميمهما على اللوحة متقناً وبارعاً، ومن جهة أخرى، وهو الأهم، ذلك الشكل المتقن لحرف الألف في بداية لفظ الجلالة (الله)، حيث لم تترك الفنانة أية فرصة لما يشوّه جمال هذا الحرف، الذي برز في أعلى اللوحة متوسطاً لفظ الجلالة على نحو يكسبه مهابة ورفعة، -ربما- لأن المتصوفة كانوا يعتبرون هذا الحرف لاقترانه بوحدانية الخالق هو الحرف الأرفع مكانة بين الحروف، ومنهم -أي المتصوفة- من اعتبره مصدر الحروف جميعاً، وأنها كلها قد اشتقت منه.
استقامة الألف
في اللوحة الخطية التي أمامنا تظهر الفنانة الروسية جماليات حرف الألف، في أعلى اللوحة لتمييزه عن غيره من الحروف، وقد حرصت على أن تظهره باستقامة واضحة على خلاف ما في باقي الحروف من الانحناءات والتقوسات، والألف هنا، له مرتبة خاصة تتصدر جميع الحروف، وكل حرف سواه يحمل مرتبة أقل منه، ففي التراث الصوفي (هو حرف لا يتعلق بشيء، ويخفي اسمه في جميع المراتب).
واستقامة الألف في اللوحة كما يؤكد خبراء الخط، نابعة من كونه لا يتصل بباقي الحروف رغم سريانه فيها، ويؤكد ذلك، القشيري بقوله: «اختص كل حرف بصيغة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها في الحروف».
إضاءة
نتالي توروبيتسينا فنانة روسية حاصلة على الماجستير من جامعة موسكو الحكومية لفنون الطباعة (قسم الفنون التصويرية) ودرست أيضاً في كلية أستراخان للفنون في مدرسة يفغيني دوبروفسكي في موسكو للخط.
أجرت عدة ورش في فنون الخط في متحف موسكو للفن الحديث، والتحقت بدورة في فن الخط مع البروفيسور محمد النوري ومصعب الدوري في مركز الشارقة لفن الخط العربي.
شاركت في كثير من ملتقيات وورش الخط والرسم حول العالم.
الخط العربي.. استقامة الألف ومهابة الحرف - ستاد العرب

الخط العربي.. استقامة الألف ومهابة الحرف - ستاد العرب
0 تعليق