«الثلث الجلي».. مرونة تداعب العين - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم ما يتوفر للأجيال الجديدة من مسببات العدول عن الإبداع في كل ما هو تقليدي، لا تزال تظهر من حين لآخر بعض المواهب الشابة، التي استطاعت أن تبرهن على مدى ارتباطها بالإرث الفني العربي، خاصة فن الخط، ومن هؤلاء الخطاط الشاب محمد فرحات أبو الإسعاد.
يحاول أبو الإسعاد أن يذهب في أعماله الفنية إلى أسلوب التعبيرية الخطية، وذلك من أجل تأكيد جماليات الخط العربي، حيث توحي مضامين لوحاته بفلسفة خاصة، ومن دون أن يمنعه ذلك من التعبير عن معانيها بأدوات الخط الكلاسيكية وآلياتها، المتمثلة في الإمكانيات التي يتمتع بها هذا الفن، والبارزة في مختلف أنواعه التقليدية، التي برع خطاطنا في إتقانها، وهذا ما يظهر امتلاكه موهبة حقيقية.
* توظيف
كتب أبو الإسعاد في لوحته هذه نصَّ الآيات 10 و11 و12 من سورة نوح، حيث يقول تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}، وهي آية يدعو فيها نوح عليه السلام قومه لاستغفار الله، ليؤتيهم ما يرجون من رزقه، وقد صارت دعوة لكل الراغبين في عطاء الله، ما جعَل الخطاط يسعى إلى التعبير عن مضامينها في لوحته، والتي كتبها بخط الثلث الجلي، حيث رأى أنه أكثر الخطوط مناسبة لذلك، لما يتميز به من مرونة ومطاوعة للتركيب، وما يمنح الخطاط من حرية في تنفيذ التصميم، بغض النظر عن التكوين المُراد إنشاؤه، ويمنح القدرة على استغلال المساحات لتنفيذ ما يلزم لجمالية العمل، ويستفيد فيه من خصائصه المميزة، مثل التحكم في تنويع شكل الحرف الواحد في نفس اللوحة، حسب ما تقتضيه رؤيته للتكوين داخل التصميم الخطي، إضافة إلى الاختزال والدمج بين الحرفين أو جزء منهما، بما لا يضر شكل الحرف الأصلي، ودقة النّسب والمقاييس في رسم الحروف بأبعادها المختلفة، من أجل تحقيق التناسق الشكلي المطلوب، كما يمكن فيه تحقيق تميز خاص للشكل الخطي من خلال استغلال خاصيّتي التقاطع والتراكب بين الحروف والكلمات، من دون أن ننسى خصائصه التكميلية، مثل ملء الفراغات بالنقاط وحركات التشكيل، والخطوط التزيينية المتنوعة، وقد وظف أبو الإسعاد كلّ ذلك، لتظهر لوحته للمشاهد في ما هي عليه من جمال.
* تكوين مُركّب
صمّم أبو الإسعاد لوحته في تكوين مركّب على شكل ثمرة، من كتلتين خطّيتين، لأن رزق الله الحلال ثمرة لاستغفاره وطاعته، ففي الكتلة الأولى شكّل الخطاط من أولى الآيات نواةَ الثمرة، متوسطّة الشكل العام، وفي الكتلة الثانية شكّل من الآيتين الأخريين طبقة قشرتها، ولم يكن ذلك اعتباطياً، لأن الآية الأولى دعوةٌ للاستغفار والترغيب فيه، كأساس ونواة للحصول على عطاء الله، بينما الآية الثانية وصفٌ لذلك العطاء الذي يرزق الله به عباده المستغفرين.
وهكذا انطلق من كتلة النواة الداخلية، ليخط نصّ الآية الأولى بتركيب متداخل، فكتب «فَقُلْتُ»، جاعلاً منها قاعدة حاملة لتلك الكتلة الخطية، لأن كل ما يأتي في النص هو قول نوح عليه السلام، ثم كتب «اسْتَغْفِرُوا» بشكل كبير يجعل المشاهد يفهم ما تقدّم عن ما يعنيه الاستغفار من أهمية في مضمون هذا النص، وكتب «رَبَّكُمْ» يسار الجانب العلوي، إشارة إلى عُلوِّ الله الذي يوجّه إليه الاستغفار، ثم عاد إلى اليمين وكتب أسفل من ذلك بقليل «إِنَّهُ»، وكتب أعلاها «كَانَ»، وأعلى من كل ذلك «غَفَّارًا»، وقد أراد بذلك التسلسل المتصاعد التعبير عن مغفرة الله لمن استغفره، وهو ما أكّده بصرياً بالتماثل الذي أحدثه بين حرفي الغين في كلمتي «اسْتَغْفِرُوا» أسفل الكتلة و«غَفَّارًا» أعلاها.
أما في كتلة طبقة القشرة، فقد انطلق في خط الآيتين الأخريين بشكل متسلسل، مكنّه من استغلال كل الحروف والكلمات لتنفيذ رؤيته الخطية، فكتب «يُرْسِلِ»، مُركّباً بعضها على بعض، وداخَل معها «السَّمَاءَ»، والتي داخَل معها أيضاً «عَلَيْكُمْ»، وقد وزع الأخيرة إلى مقطعين منفصلين لتفي بالغرض، ثم كتب «مِدْرَارًا» مقاطعاً بين راءيْها وألفَيْها لتُمثلا نزول المطر، وكتب المقطع: «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ» مُركّباً كلماته فيما بينها، للإشارة إلى الصّلة بين المال والبنين كزينة للحياة الدنيا، وهو ما فعله مع المقطع: «وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا»، الذي يشير إلى كمال مستويات الرزق الدنيوي.
إن الطريقة التي نفّذ بها الخطاط هذه اللوحة، تؤكّد ما ذهبنا إليه عن قدرته الإبداعية المميزة، والتي لا تتوقف عند طريقة كتابته الخطية، بل تصل إلى المستويات الجمالية الأخرى الظاهرة في العمل، مثل اختياره للألوان، حيث ترمز الخلفية الصفراء إلى التعقل الذي تدعو إليه الآية، ويرمز لون النواة البُنّي إلى قوة الصلة بين الاستغفار والرزق الحلال، فيما يرمز لون طبقة القشرة الأسود إلى الثقة التي تحصل لدى المستغفرين اللهَ.
* إضاءة
ولد الخطاط محمد فرحات أبو الإسعاد سنة 1988م، وتخرج في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية، كما حصل على دبلوم في الخط العربي، وعُين مدرّساً للخط العربي في الإسكندرية، شارك في ملتقى الشارقة للخط في أكثر من دورة، وشارك في ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي 2015، وحصل على المركز الأول في مسابقته، وله مشاركة في مهرجان الجزائر الدولي 2015، وملتقى الدوحة لفن الخط العربي 2010.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق