يتميز العديد من الخطاطين المعاصرين بقدرتهم على تقديم إبداعات في الخط العربي التقليدي، مع وضع بصمة تصل أعمالهم بالحاضر، وهو ما يستطيع المشاهد ملاحظته مباشرة، عندما تستدرجه طريقة تنسيق الألوان، وأسلوب الكتابة، فلا يملك أمام ذلك إلا أن يقف مشدوهاً، لتنصهر ذاته في فضاءات الجمال، مثل ما نجده لدى الخطاط محمود الخطيب.
نمّى الخطيب موهبته الخطية من خلال اشتغاله في التصميم، فكان لتمكّنه من الخط التقليدي دور مهم في إبراز موهبته الكبيرة، ورغم أنه أنجز العديد من أعماله الخطية بالأساليب التقليدية، إلا أنه تعوّد على أن يصبغها بطابع حداثي، يمنحها المزيد من الإشراق، ويؤكد قدرة فن الخط العربي على التكيّف مع مختلف العصور، وهو ما يجعلنا نرى في شخصه تأكيداً آخر لذلك؛ لأن الكثير من المهتمين بهذا الفن كانوا يعتقدون أن الأجيال التي يمكنها أن تبدع فيه قد ولّى زمنها، فجاءت كوكبة من الشباب مثل خطّاطنا لتفنّد ذلك الاعتقاد، وتواصل مسيرة الخط العربي، وبأساليبه التقليدية التي لم يَخْبُ وهجها منذ قرون.
* تكامل
اختار الخطيب للوحته جزءاً من نص الآية 24 من سورة الإسراء التي يقول فيها جَلّ من قائل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهي آية تدعو إلى برّ الوالدين، وحسن معاملتهما، رحمة بهما، وتخلّقاً بما تُمليه الفطرة السّوية، وطاعةً لله، وكتب الخطيب النص بخط الثلث الجلي، الذي يتميز بجمالية بصرية مبهرة، خاصة إذا كتب به فنان قادر على توظيف خصائصه على الوجه الصحيح، وهو ما حدث مع فناننا الذي استفاد في ذلك من خلفيته في فن الزخرفة، وفي التصميم الحديث، فكان تركيبه موحياً بلمسات الزخرفة، التي تتقاطع مع أسلوب الثلث الجلي في طبيعة التزيينات، وكان الشكل العام عاكساً لفنيات التصميم المُتقنة، مع مراعاته لدلالات النص المكتوب، والتزامه التام بخصائص الثلث الجلي على أصوله، فظهرت في اللوحة متانة التركيب ووضوح كتابة الحروف والكلمات، رغم تشابكها، وأدى كل حرف ما يُراد به، وعكست كل كلمة عمق معناها، إضافة إلى ملء الفراغات بالحركات والشدات والنقاط، وغير ذلك من المميزات الجمالية، لتتكامل جميعاً في سلاسة وبهاء، ينفذان إلى قلوب المشاهدين بيُسر، ويغوصان بها في تخوم بحر الجمال العميق.
* توظيف
صمّم الخطيب لوحته في تكوين خطي بيضوي، عمل خلاله على توظيف مكوّنات النصّ، بالطريقة التي تناسب أسلوبه في تنفيذ الأعمال، فانطلق في الكتابة من الأسفل وكتب في الجانب الأيمن «وَاخْفِضْ»، مُوحياً بمعنى الكلمة، وما يدلّ عليه من النزول إلى أخفض مستويات الطاعة، والذي لا يجوز في حقّ بشر؛ مثلما يجوز في حقّ الوالدين اللذيْن أنْجَبا الإنسان بشراً في هذه الدنيا، ومنحاه من الحنان والعطف، ما لا يقدّر بثمن، فاستوجبا حبّاً خاصاً، ثم كتب «لَهُمَا» في الوسط، وفي حضن حرف الضاد من «اخْفِضْ»، إشارة إلى ما يستحقانه من احتضان، مثلما يحتضنان أبناءهما، وقد أرسل ألفها في امتداد شاهق، وكأنه يشير إلى أن ذلك الاحتضان يصل بصاحبه إلى أسمى مراتب الإيمان بالله الذي أوصى بهما خيراً، وكتب «جَنَاحَ» في الجانب الأيسر ودمج بين حرفي الجيم والحاء، ليُشَبِّه بصرياً بين خفض الطير لجناحيه رحمة بصغاره الذين يحتضنهم، وخفض الإنسان لقدره رحمة بوالديه، وهو ما يؤكّده التناسق الشكلي الذي عمله بين حرفَيْ الخاء في كلمة «اخْفِضْ»، والجيم في كلمة «جَنَاحَ»، ثم انتقل إلى المستوى العلوي، وكتب في الجانب الأيمن كلمة «الذُّلِّ» فوق «اخْفِضْ» مباشرة، ليشير إلى أن الذّل للوالدين يرفع قدر صاحبه إلى عليين في الدنيا والآخرة، عكس ما يفعله الذّل لغيرهم من حطّ لقيمة الإنسان، ثم كتب «مِنَ» مركّبة على كلمة «الذُّلِّ»، ليعكس عليها المعنى الذي ستكمله الكلمة التالية، وهي «الرَّحْمَةِ» التي كتبها في الجانب الأيسر، فالذل للوالدين من الرحمة، ورحمة الوالدين في الدنيا تستدعي دعاءنا لهم بالرحمة، كما رَبّونا صغاراً.
إن المُشاهد لهذه اللوحة بعين فنية، يكتشف أن الخطيب نجح في تقديم عمل إبداعي حقيقي، يمزج بين جماليات الخط التقليدي، باحتوائه على الخصائص الفنية لخط الثلث الجلي، وما تضفيه التزيينات من بهجة، وبين الفن الحديث، الذي برزت سماته في طريقة استخدام الألوان بوعي فنّي خالص، فكان فيها اللون الأحمر وما يرمز إليه من عاطفة ودفء وطاقة، واللون الأسود وما يرمز إليه من ثقة بالنفس وبالله، وهي كلها دلالات متوائمة مع مضمون النص، وما يدعو إليه من حب وبر للوالدين، وما يفتحه من آفاق دنيوية وأخروية للبَارّ، ولوالديه.
«الثلث الجلي».. بهاء يأسر القلوب - ستاد العرب

«الثلث الجلي».. بهاء يأسر القلوب - ستاد العرب
0 تعليق