الشارقة: علاء الدين محمود
يقوم السرد الروائي والقصصي في كثير من الأحيان بدور الباحث عن الحقيقة، ويقف ضد الظلم والعنصرية، وهناك العديد من الأعمال الأدبية التي خلدت من خلال تلك الثيمات والمواضيع. رواية «آرثر وجورج»، للكاتب الإنجليزي جوليان بارنز، التي صدرت نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: نداء فاروق غانم، تعد من الأعمال السردية التي تعالج موضوع العدالة.
تغوص الرواية عميقاً في المجتمع الغربي في القرن التاسع عشر وحتى حدود القرن العشرين، حيث كانت تسود عادات وتقاليد تعلي من قيمة الإنسان الأبيض الذي كان يعتبر هو مركز الحياة وقتها، وبالتالي فإن بقية الأجناس هم كائنات من الدرجة الثانية والثالثة، وذلك يشير إلى تفشي العنصرية بشكل واسع، إذ كانت القيم والثقافة وسمات العيش السائدة هي التي يفرضها البيض، وأمام هذا الواقع تجري الكثير من قصص المعاناة للمهمشين من القوميات الأخرى.
تتبع أحداث هذه الرواية الحياة المنفصلة والمتقاطعة في ذات الوقت لرجلين بريطانيين مختلفين في كل شيء، الأول هو محام نصف هندي، وابن كاهن أبرشية منطقة «غريت ويرلي»، ويدعى جورج إيدالجي، أما الثاني فهو السير آرثر كونان دويل، مؤلف قصص «شارلوك هولمز»، الشهيرة، وتتحدث قصة الرواية عن اتهام جورج بجريمة لم يرتكبها، وتورد دار النشر هذا المقطع لتوضيح عوالم الرواية: «تُجري الشرطة تحقيقاً حول حوادث تمثيل بشعة بالحيوانات في منطقة الأراضي الزراعية من غريت ويرلي، وآخَر حول رسائل محملة بالحقد والكراهية يُرسلها مجهول إلى منزل كاهن الأبرشية. تنتهي التحقيقات باتهام جورج إدالجي وإدانته في المحكمة بتلك الجرائم. ثم نرى السّير آرثر كونان دويل، يتلبّس شخصيّة شارلوك هولمز، ويُحقّق في الحوادث وملابساتها، ويلتقي جورج وأسرته والشهود، ويُثير الرأي العام عبر الصحف حول الظلم الذي وقع عليهم. لكن هناك الكثير مما لا يعرفه أحدهما عن الآخر: هل سبب ما وقع على جورج إدالجي هو العنصرية ضد أصوله الهندية؟ ولماذا يؤمن طبيب وكاتب عبقري مثل آرثر كونان دويل باستحضار الأرواح؟».
تفاصيل
تفاصيل كثيرة يحملها العمل موزعة ما بين حياة الرجلين «آرثر وجورج»، وكذلك روح العصر في ذلك الوقت وتفشي أمراض العنصرية والتي كانت هي السبب المباشر في اتهام جورج، ويعود السرد في الرواية إلى البدايات، حيث تتناوب الصفحات المئة الأولى بين طفولة آرثر وجورج المختلفة تماماً في العصر الفيكتوري ومرحلة البلوغ المبكرة، ويتم سردها في زمن الماضي والحاضر على التوالي، إذ يتم التركيز في العمل بشكل أساسي على ذلك التقابل بين الشخصيتين الرئيسيتين آرثر وجورج، باستصحاب واقع العنصرية التي سادت بريطانيا في ذلك الوقت.
نال جورج تربية روحانية بواسطة الأسرة المتدينة وكذلك لأصوله الهندية جهة الأب، حيث شبَّ على الإيمان بالعمل الجاد والصدق والادخار والإحسان وحب الأسرة، وعلى الإيمان بأنَّ الفضيلة هي مكافأة بحد ذاتها، وفي الثالثة والعشرين أصبح محامياً، يشعره القانون بالثقة والسعادة، بالمقابل فإن آرثر قد ترعرع في وسط برجوازي حيث التعليم الحديث ووسائل الترفيه، فيدرس الطب ثم يمارس فعل الكتابة الإبداعية الخيالية فنشر أعماله في الصحف ويقوم باختراع شخصية شارلوك هولمز.
لقاء
تلك الجريمة التي وقعت والتي ألصقت بجورج ونال جراءها عقوبة السجن سبعة أعوام، هي التي جمعت بين الرجلين النقيضين الممثلين للطبقتين المتباينتين، مجتمع البيض والملونين من العرقيات المختلفة، وربما كان هذا اللقاء يخفي وراءه الكثير من الدوافع، فجورج كان لابد له أن يحصل على معونة من شخص ينتمي إلى الطبقة النبيلة، يفهم لغتهم ويتحاور مع قانونهم، أما آرثر الذي لعب دور المحقق شارلوك هولمز من أجل فك عقد القضية، فهو الآخر أراد الارتقاء إلى سلم المجد والنجاح، بالإضافة إلى الدوافع الإنسانية، فقد كان هو الآخر يعيش اضطراباً بسبب ظروفه العاطفية بسبب مرض زوجته.
مفارقة الحكاية
تنطوي على مفارقة كبيرة، وهذا واحد من أسباب نجاح هذه الرواية، وهي أن جورج الذي أصبح محامياً والغارق في العوالم الروحية متنقلاً بين الشك والإيمان، يصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه في مواجهة التهمة التي ألصقت به والجريمة التي هزت المجتمع حينها، حتى أصبحت قضية رأي عام، فجورج أراد أن يحقق حلمه بأن يشتهر في المجتمع كمدافع عن الناس عن طريق المحاماة ليجد نفسه ضحية لعدالة مهدرة، أما آرثر فوجد معاناة كبيرة في أن يمضي في حياته بشكل طبيعي عقب مرض زوجته ووفاتها فيما بعد، وأراد أن يملأ الفراغ الروحي الكبير الذي مر به، لينتقل من كونه طبيباً إلى عالم الأدب وكتابة القصص البوليسية، ثم يجد في قضية جورج مناسبة للانشغال وتفجير طاقاته في حل هذا اللغز، فبدلاً من الاكتفاء بسرد وقائع خيالية عبر حكايات هولمز ها هي الفرصة أمامه لحل قضية حقيقية، فقد كان يشعر منذ البداية أن لديه رسالة غير أن يصبح مجرد طبيب.
أساليب
لعل اللافت في هذه الرواية التي كتبت عام 2005، وهي العمل السردي العاشر لجوليان بارنز، أنها أقرب إلى السيرة الذاتية، فالكثير من الوقائع التي اتكأ عليها السرد كانت حقيقية، خاصة في ما يتعلق بقصة آرثر مخترع شخصية شارلوك هولمز، حيث جمع العمل بين تقنيات وأساليب مختلفة لعل أبرزها تلك القوة في الوصف الذي يصنع الصور والمشهديات المتعددة ويغوص في وقائع ذلك العصر الفيكتوري الإنجليزي ليتلقط مفارقاته بصورة ساخرة، ولعل من أبرز التقنيات المستخدمة في العمل هو ذلك التنقل البديع في الأزمنة المختلفة حيث يصنع السرد خلفية لبطلي الرواية عبر «الفلاش باك»، ويتابع مسيرتهما في الحياة ومصيرهما الغريب، فبينما يخرج جورج من السجن بعد ثلاثة أعوام قضاها ظلماً، تزدهر شخصية آرثر ويحقق شهرة كبيرة كمدافع عن الحقوق، وتلك التناقضات والمفارقات تحملها الحواريات الرائعة بين الشخصيتين.
صدى العمل
وجد صدى كبيراً، نسبة لأهمية الموضوع الذي يحمله، فالرواية بأكملها تعتمد على دراما من الحياة الواقعية، حيث تم تصنيف المؤلف في وقته ضمن أعلى الكتب مبيعاً على مستوى بريطانيا، وأشار العديد من النقاد إلى أن متعة الرواية تكمن في أنها مزجت بين السيرة الذاتية، والغموض البوليسي، والدراما في قاعة المحكمة، والحملة من أجل العدالة، والتي تشمل موضوعاتها الفروسية، والعنصرية النظامية، والإصلاح القضائي، والهوية الإنجليزية، والحب الملكي، ورواية القصص، والإيمان، والروحانية، وعلى الرغم من أن هذا العمل يقرأ على أنه رواية خيالية، لكنه كان شديد الواقعية، حيث يقتبس وثائق حقيقية، وصحفاً، ونصوصاً، وسجلات، وغير ذلك من جهد بحثي كبير قام به المؤلف لينسج فصول هذه الأيقونة السردية التي تحمل الرؤى والأفكار وتحتفظ في ذات الوقت بالأبعاد الجمالية.
يقوم السرد الروائي والقصصي في كثير من الأحيان بدور الباحث عن الحقيقة، ويقف ضد الظلم والعنصرية، وهناك العديد من الأعمال الأدبية التي خلدت من خلال تلك الثيمات والمواضيع. رواية «آرثر وجورج»، للكاتب الإنجليزي جوليان بارنز، التي صدرت نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: نداء فاروق غانم، تعد من الأعمال السردية التي تعالج موضوع العدالة.
اقتباسات
- «إذا كان الرجل لا يستطيع أن يقول ما يريد أن يفعله، فعليه أن يعرف ما يجب عليه فعله».
- «إذا تعقدت الرغبة فتمسك بالواجب».
- «لكي تتصرف بشكل جيد، عليك أن تتصرف بشكل سيئ».
- «كان من الممكن تماماً أن تكون فناناً، ولكن أيضاً أن تكون قوياً ومسؤولاً».
- «الشرف ليس مجرد مسألة شعور داخلي جيد، ولكن أيضاً سلوك خارجي».
- «عليك أن تمضي في طريقك عبر الحياة وتقول الحقيقة».
- «تعقيدات الحياة لا تنتهي».
- «هناك فجوة بين الحلم والواقع».
دار روايات
0 تعليق