الشارقة: عثمان حسن
من اللوحات الخطية اللافتة المشاركة في ملتقى الشارقة للخط في دورته الحادية عشرة «تراقيم» نتوقف عند واحدة للخطاطة الإماراتية فاطمة الظنحاني بعنوان «في التخلي تجلٍّ» وخطتها بالثلث الجلي، وهذه العبارة هي للشاعر والفقيه والمتصوف المعروف جلال الدين الرومي.
تمكن جلال الدين الرومي من استحداث مفهوم صوفي رائع حول التخلي، في دلالة تشير إلى أن التخلي عن الذنوب والمعاصي والنزوات والشهوات، يفضي بالضرورة إلى تجلي روح الإنسان وارتفاع منزلته، ويقدر العلماء والفقهاء أن ثمة إشارات كثيرة في هذا القول تنطبق على أمور الدنيا وشؤونها، هنا، يأخذ معنى التخلي بعداً آخر يمتحن قدرة الإنسان على الصبر والتفكر وإعمال الخيال والتأمل، التخلي هنا، ليس أن تترك كل شيء وتبتعد عنه، بل هو تجربة تمتحن خيارات الإنسان في الابتعاد عن هذا الشيء الذي يتخلى عنه، مع إعمال التوكل والصبر، حيث لا بد وأن تتجلى لهذا الإنسان مسارات جديدة تنفتح على ما يريد في الوقت المناسب أو المقدر.
يحمل هذا القول الكثير من العمق، فقد يترك الإنسان شيئاً يحبه أو يمتلكه و-ربما- يتملك أو يستحوذ على مشاعره، ولعل أعلى درجات التخلي هو تخلي المرء عما يغضب الله ويشغله عن طاعته والفوز برضاه.
قامت الخطاطة فاطمة الظنحاني بترجمة هذه المعاني من خلال لوحة استخدمت فيها اللونين الأسود والأخضر من خلال الثلث الجلي بتصميم حديث.
تداخل اللونان الأخضر والأسود في هذه العبارة، حيث للأخضر مكانته في الأدب الصوفي بشكل خاص، وكذلك الأسود ، ما يعزز من ثيمة التجلي الروحي التي تحملها اللوحة.
فالأخضر بحسب بعض المتصوفة يستحق التأمل، لأنه يدعو إلى تذكر الخضرة الدائمة في الجنة، وهو بالتالي من الألوان المحببة الموصوفة بالجمال إلى غير ذلك من الإشارات التي درجت في رمزية هذا الون وإحالاته، وكذلك هو اللون الأسود الذي احتمل هو الآخر في الأثر الصوفي الأدبي الكثير من الرموز الروحية.
*تكوين
حرصت فاطمة الظنحاني على تصميم اللوحة بالثلث الجلي أو ما يطلق عليه «الثلث الثقيل» وهو الذي درج الخطاطون القدامى على كتابته على الجدران والآثار المعمارية بحجم كبير يميل إلى الوضوح، وهو بالتالي يمكن الخطاط من اختبار قدراته في نسج علاقة بنائية تظهر على نحو بصري لافت مريح لعين الناظر، وهو بالتأكيد يضيف إلى المنظور العام للوحة الخطية، بحسب ما يظهر في امتدادات الحروف وتناظرها، كما هو واضح في (ألفات) و(لامات) كلمتي التخلي والتجلي، وكما هو مطبق أيضاً في (الياءات) التي ترد ثلاث مرات في العبارة، حيث حرصت فاطمة الظنحاني أن تحتضن الياء في كلمة (في) كلاً من الياءين في كلمتي التخلي والتجلي، في تكوين بصري جمالي، وكأن الحروف هنا، تعزف لحناً متناغماً يروم التكامل والتجلي في مقاربة لافته لمعنى العبارة وإشاراتها كما وردت في نص جلال الدين الرومي.
من جهة أخرى، فقد برعت فاطمة الظنحاني في تقديم شكل خطي منسجم من الأعلى والأسفل وهذا ما يمتاز به خط الثلث في التقوسات والانحناءات وفي استدارة الحروف وكأننا أمام تكوين متناسق الأبعاد، يحفز عين المشاهد على قراءات أعمق تمنح اللوحة بعداً تأويلياً منسجماً مع ألق وروحية الحرف العربي بوصفه فناً إسلامياً عريقاً.
ولم تنس الخطاطة أن تزين لوحتها الخطية ببعض علامات الترقيم انسجاماً مع شعار الملتقى، كما في الشدة والضمة.
لقد حققت اللوحة التي أمامنا مجموعة من العناصر الجمالية بالنظر إلى تكوينها ومن ذلك قابلية الثلث للتشكيل والإبداع والتركيب، من حيث تشكيل وتراكيب الحروف بعضها فوق بعض وفي تشابكها على نحو مدهش يبرز جمال النص المخطوط ليتسنى قراءته، ويحقق تلك الوظيفة الجمالية، وتلك الجاذبية البصرية بأسلوب يمنح الخطاطين فرصة كبيرة للإبداع والخلق الفني.
*إضاءة
فاطمة الظنحاني خطاطة إماراتية عضوة في جمعية الإمارات للخط العربي، حازت على عدة جوائز في الخط منها: جائزة العويس للإبداع أربع دورات، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بالخطاط الإماراتي في ملتقى الشارقة للخط في عام 2022، كما حصلت على المركز الأول في مسابقة الفجيرة الدولية في الخط الديواني الجلي 2023، ولها مشاركات في العديد من المعارض والفعاليات الثقافية داخل الدولة وخارجها.
0 تعليق