لغتنا.. مفتاح الحضارة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: مدحت صفوت

تُعد المعاجم اللغوية التاريخية من أهم الأدوات اللغوية التي تهدف إلى تتبع تطور الكلمات عبر العصور المختلفة، وتعكس مدى تحول اللغة وتطور مفرداتها واستخداماتها عبر التاريخ. وبحسب التعريفات الأكاديمية، فالمعجم التاريخي «عبارة عن سجل شامل يتناول كل لفظة في اللغة العربية، ويوضح تطوراتها من النواحي الصوتية والدلالية والصرفية منذ ظهورها حتى آخر استعمال لها»، ما يجعله مدخلاً لغوياً للحضارة العربية والإسلامية، راصداً الألفاظ منذ ظهورها وما يطرأ عليها من تحولات صوتية أو صرفية أو دلالية، ويدوّنه عبر تاريخها الاستعمالي.
أما عن أنواعه، فللمعجم التاريخي نوعان رئيسيان وفقاً للوحدات المعجمية والفئات المستهدفة، أولاً: المعجم التاريخي العام، ويشمل كل ألفاظ اللغة من دون استثناء، مهما اختلفت مجالاتها وتنوعت حقولها، سواء كانت علمية، أدبية، فلسفية أو فنية، مكرساً العامل التاريخي لتعقب دلالات الكلمات وتطورها عبر الزمن، وثانيا:ً المعجم التاريخي الخاص، ويختص بتدوين مصطلحات علم معين أو مجال معرفي محدد. يُعرض فيه التطور الدلالي والاستعمالي للمصطلحات بشكل تاريخي، منذ ولادتها حتى آخر استعمال لها، وهو يخدم التخصص ويساعد القراء على معرفة مصطلحات حقول معرفية معينة.
وحسب عدد من الباحثين، فإن المعجم التاريخي لا يخرج في وظيفته عن إطار المعاجم التقليدية، من حيث جمع مفردات اللغة، وتصنيفها وتبويبها، وشرحها. ومع ذلك، يتميز المعجم التاريخي بتتبعه لألفاظ اللغة وصفاً وتاريخاً منذ ولادتها وحتى آخر استعمال لها، متتبعاً تأثيرات الزمن والمكان عليها. فهو يسعى إلى توثيق التحولات الصوتية والدلالية والصرفية التي تطرأ على الكلمات، ويقدم صورة شاملة لتاريخ اللغة في كافة مراحلها، ما يجعله أداة أساسية لفهم تطور اللغة والهوية الثقافية والحضارية للأمة.
اهتمام
منذ بداية الحضارة العربية الإسلامية، أولى العرب اهتماماً بالغاً باللغة العربية وتوثيق مفرداتها ومعانيها، ما أدى إلى ازدهار علم المعاجم لديهم على مر العصور. وأدرك العرب أن المعجم هو الذاكرة الحية للأمة، يحفظ تراثها اللغوي وثقافتها، ويضمن استمراريتها عبر الأجيال.
ويشهد على هذا الاهتمام العميق باللغة، حراك معجمي واسع شهدته الحضارة العربية، حيث أنتج العلماء العرب العديد من المعاجم التي تغطي شتى جوانب اللغة، لافتة انتباه المستشرقين، الذين أشادوا بدور العرب الريادي في مجال المعاجم، ومع ذلك، فقد شهدت الحركة المعجمية العربية فترات من الازدهار وفترات أخرى من الركود. فبعد عصر ازدهار المعاجم، دخلت اللغة العربية في فترة من الركود، ما أدى إلى ضياع الكثير من المعاجم والمخطوطات
سمات فريدة
حسب دراسة للأكاديمية المصرية صابرين مهدي علي أبو الريش، فإن المعاجم اللغوية التاريخية تتسم بكونها شاملة تتوسع في ذﻛﺮ ﻛﻞ ﻛﻠﻤﺎت اﻟﻠﻐﺔ دون اﻧﺘﻘﺎء ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺬﻛﺮ أﺻﻠﻬﺎ واﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻬﺎ، أي يمكن اعتبار ﻣﻨﺘﻬﻰ اﻟﻜﻤﺎل ﻟﻤﻌﺠﻢ ﻋﺼﺮي أن ﻳﻜﻮن ﻣﻌﺠﻤﺎً ﺗﺎرﻳﺨﻴﺎً وﻳﺠﺐ أن ﻳﺤﻮي ﻛﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﺗﺪاوﻟﺖ ﻓﻲ اللغة، مؤرخاً، ﻟﻤﻴﻼد اﻟﻜﻠﻤﺔ وﻳﺘﺘﺒﻊ ﺗﻨﻘﻼﺗﻬﺎ ﺻﻮﺗﺎً وﺻﺮﻓﺎً وﻧﺤﻮاً ودﻻﻟﺔ ﻣﻨﺬ أﻗﺪم ﻇﻬﻮر ﻣﺴﺠﻞ ﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا.
وتضيف صابرين أبو الريش في دراستها الأكاديمية المعنونة ب «المعجم التاريخي ودوره في الحفاظ على الهوية وإحياء الماضي وإثراء الحاضر والمستقبل»، أن المعجم اللغوي التاريخي يتجنب اﻟﻮﺻﻒ أو اﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ﻓﻲ ﺗﻘﺪﻳﻤﻪ ﻷﺻﻮل اﻟﻜﻠﻤﺎت وﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ وﻳﻠﺘﺰم ﺑﺎﻟﺴﺮد التاريخي، مرتباً معاني متداخلة ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻮﺿﺢ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻄﻮر ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ، وﺗﻮﻟﻴﺪ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ، أي أن ﻋﻠﻢ اﻟﺪﻻﻟﺔ الذي ﻳﻨﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻌﺠﻢ ﻣﻮﺟﻪ وﺟﻬﺔ تاريخية، كما ﻳﺤﺮص ﻋﻠﻰ أﻻ ﻳﻜﻮن اﺧﺘﻴﺎر اﻟﺸﻮاﻫﺪ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺎً، ﺑﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻰ اﻟﺸﻤﻮل ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺰﻣﺎن واﻟﻤﻜﺎن، وﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻮﻓﺮة وﺗﺘﺎﺑﻊ اﻟﺘﻐﻴﻴﺮات ﻓﻲ اﻟﺪﻻﻻت.
والمعجم بحسب صابرين أبو الريش، يستند إلى مصادر موثوقة من النصوص الأدبية والتاريخية، ويحرص على التحقق من صحة المعلومات، ويجري ترتيب المعاني المختلفة للكلمة وفقاً لتسلسلها الزمني، ما يساعد على فهم تطورها، إضافة إلى أنه ﻣﻌﺠﻢ ﻣﻔﺘﻮح ﻏﻴﺮ ﻣﻐﻠﻖ، ﻓﻬﻮ ﻳﺘﺮﺻﺪ أي ﺗﻄﻮر ﻃﺮأ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻔﻆ ﻣﻦ ﺑﺪاﻳﺘﻪ إﻟﻰ ﻏﺎﻳﺔ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا، ﻓﺈذا ﺗﻢ ﺗﺴﺠﻴﻞ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﺘﻄﻮرات واﻟﺘﺤﻮﻻت اﻟﺘﻲ ﻃﺮأت ﻋﻠﻰ ﻟﻔﻆ ﻣﻦ اﻷﻟﻔﺎظ ﻓﻲ ﻋﺼﻮر ﻣﺤﺪدة ﺛﻢ ﺗﺒﻴﻦ ﺗﻄﻮر ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻬﺬا اﻟﻠﻔﻆ وﺟﺐ إدراﺟﻪ وﺗﺴﺠﻴﻠﻪ.
إنجاز
يمثل المعجم التاريخي للغة العربية، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالشارقة، إنجازاً حضارياً فريداً في عالم اللغة العربية، فهذا المشروع الضخم، الذي استغرق سنوات من الجهد والعمل الدؤوب، يعتبر موسوعة شاملة لتاريخ الكلمة العربية وتطورها عبر العصور، ويكتسب أهمية كبرى من كونه يسهم في حفظ التراث اللغوي العربي الغني، ويحمي اللغة من الضياع والاندثار، كما يوفر أداة قيمة للباحثين والدارسين للغة العربية، ويمكنهم من خلاله تتبع تطور الكلمات والمعاني وتطور النحو والصرف، ويساعد في تطوير اللغة وتحديثها وإثرائها، فضلاً عن تعزيز الهوية العربية، ويقوي الانتماء إلى اللغة والتراث العربي.
ومع اكتمال المعجم التاريخي للغة العربية، يمكن القول إن الأمر يمثل إنجازاً حضارياً بارزاً، ويقف شامخاً كصرح لغوي خالد يوثق تاريخ الكلمة العربية وتطورها عبر العصور، مشكلاً مرجعاً شاملاً لكل من يعمل في مجال «العربية»، سواء كان لغوياً، أو نحوياً أو بلاغياً أو أدبياً، أو حتى دارساً للغات الأخرى. فهو يوفر كنوزاً لغوية لا تُقدر بثمن، تسهم في تعميق فهمنا للغة العربية وتاريخها، وحفظها من الضياع والاندثار.
مع إتاحة جميع أجزاء المعجم بشكل إلكتروني، أصبح في متناول الجميع، ما يسهل على الباحثين والدارسين الوصول إلى المعلومات التي يحتاجون إليها. كما يفتح المجال أمام إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث في مجال اللغة العربية، ويحفز الأجيال الشابة على الاهتمام بلغتهم وتراثها.
سجل
والمعجم ليس مجرد قاموس يقدم معاني الكلمات، بل سجل حيوي لتاريخ اللغة وثقافة الأمة. يهدف هذا المشروع الضخم إلى جمع كل كلمة عربية وردت في النصوص المكتوبة، وتتبع تطورها الدلالي والصرفي والنحوي، بدءاً من أقدم النصوص المتاحة وحتى العصر الحديث. وتطلب إنجاز مثل هذا المشروع جهداً مضنياً ودقة متناهية.
كما تعين على الباحثين أن يأخذوا في الاعتبار مجموعة متنوعة من العوامل، مثل فهم التغيرات التي طرأت على اللغة في كل عصر من العصور، ودراسة الكلمات في مختلف المستويات اللغوية، من العامية إلى الفصحى، وتحديد الوحدات الأساسية التي يتكون منها المعجم، مثل الجذور والكلمات المركبة، وتقديم أمثلة واضحة من النصوص الأصلية لتوضيح معنى الكلمة واستخداماتها، وتحديد مستوى اللغة الذي يركز عليه المعجم، سواء كانت لغة القرآن الكريم أو الشعر الجاهلي أو غيرها، واختيار أفضل طريقة لترتيب المواد المعجمية، بحيث يسهل الوصول إليها.
مدونة
وتعتبر مدونة المعجم التاريخي قلب المشروع. فهي تضم سجلاً شاملاً لكل كلمة عربية، مع توثيق دقيق لجميع المعلومات المتعلقة بها. تشمل هذه المعلومات تحديد الجذر الذي اشتقت منه الكلمة، وتتبع التغيرات التي طرأت على معنى الكلمة عبر الزمن، وتسجيل مختلف صيغ الكلمة، وبيان كيفية استخدام الكلمة في الجملة، وتقديم أمثلة من النصوص الأصلية.
ويهدف المعجم التاريخي إلى تحقيق عدة أهداف، منها تسجيل وتوثيق ثروة اللغة العربية، وتتبع التغيرات التي طرأت على اللغة عبر العصور، وتوفير أداة قيمة للباحثين والدارسين، وترسيخ الهوية العربية من خلال اللغة.
إطلاق المعجم التاريخي للغة العربية علامة فارقة في مسيرة النهوض باللغة العربية. ومع توفير جميع أجزاء المعجم على شبكة الإنترنت، تتاح الفرصة لجمهور واسع من الباحثين والمهتمين باللغة العربية للولوج إلى هذا الكنز اللغوي الغني.
تحديات سابقة
ولمعرفة حجم الإنجاز على نحو أدق، من الضروري هنا الحديث عن صعوبات العمل من أجل إتمام أي معجم تاريخي، إذ تمتد اللغة العربية عبر تاريخ طويل وشاسع، ما يتطلب دراسة وتحليل كم هائل من النصوص والمصطلحات التي تطورت وتغيرت عبر العصور. كما أن اللغة العربية انتشرت في مناطق جغرافية واسعة وتأثرت بثقافات متنوعة، ما زاد من تعقيد عملية تتبع تاريخ الكلمات وتطورها.
من جهة ثانية، يعاني مجال دراسة اللغة العربية تاريخياً من نقص في الدراسات التأسيسية والبحوث المتخصصة في مجال التأصيل اللغوي. هذا النقص يجعل من الصعب بناء المعجم التاريخي على أسس علمية متينة، بجانب عدم توافر مدونة لغوية عربية محوسبة شاملة ومتكاملة، ما يجعل عملية البحث والاستقصاء عن الكلمات والمعاني أمراً صعباً ومستهلكاً للوقت.
ومن جهة ثالثة، كانت المدونات اللغوية العربية تعاني العديد من القصور، سواء من حيث المحتوى أو من حيث طريقة التخزين والبحث، ناهيك عن نقص حاد في عدد الخبراء المتخصصين في مجالات صناعة المعاجم، بجانب ما يتطلبه الأمر من تضافر جهود فريق كبير من الباحثين واللغويين، ما يعني وجود مؤسسة متخصصة قادرة على الإدارة وتنسيق العمل بين مختلف الأطراف.
أهمية كبرى
تعتبر المعاجم اللغوية التاريخية كنوزاً معرفية لا تُقدر بثمن، وتعتبر بمثابة المكتبة الشاملة للباحثين في مجالات اللغة والأدب والتاريخ. وتوفر لهم معلومات دقيقة ما يساعدهم على فهم النصوص القديمة بدقة أكبر وتحليلها بشكل أعمق.
كذلك يمكن للباحثين أن يكتشفوا التغيرات التي طرأت على المجتمعات والثقافات عبر الزمن، والحفاظ على نقاء اللغة وحمايتها من التشوهات والتحريفات التي قد تحدث نتيجة للتأثيرات الخارجية أو التغيرات اللغوية السريعة. إذ توفر المعاجم من هذا النوع معياراً يمكن الرجوع إليه لتحديد المعنى الصحيح للكلمات واستخداماتها الصحيحة.
جسر معرفي
بشكل عام، يشكل المعجم التاريخي للغة أداةً لا غنى عنها في التواصل الفعال، خاصة في عصرنا الحالي الذي يشهد تطوراً متسارعاً في مختلف المجالات. فمع تزايد المعرفة وتعدد التخصصات، أصبح المعجم الجسر الذي يربط بين الأفكار والمعاني.
وفي عصر العولمة والتطور التكنولوجي السريع، أصبحت أهمية المعاجم أكثر وضوحاً، إذ يسهم المعجم في الحفاظ على نقاء اللغة وحمايتها من التشوهات والتحريفات التي قد تنتج عن التأثيرات الخارجية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق