الشارقة: جاكاتي الشيخ
تبرز من خلال ملتقى الشارقة للخط في دورته 11 التي تتواصل حتى 30 نوفمبر الجاري العديد من التجارب النسائية الجديرة بالاهتمام، والتي تثبت قدرة المرأة على الإبداع إلى جانب الرجل، خاصة أنها تتميز عادة برؤية عميقة لكل ما هو جميل، ويظهر ذلك من خلال اهتمامها بالترتيب والتنظيم والتناسق في كل ما تقوم بإنجازه، ومن بين الفنانات المشاركات في هذه الدورة الخطاطة التركية كولشن يلدز.
تظهر كولشن يلدز من خلال مشاركاتها في الملتقى كخطاطة متمكنة، تبدع إلى حد بعيد في الخط العربي الأصيل، وذلك من خلال التزامها في أعمالها بالخصائص الدقيقة لكل ما يتعلق بالخط، وهو ما اكتسبته بعد أن تتلمذت على مجموعة من خيرة الخطاطين الأتراك، وأخذت بتوجيهاتهم، عاكفة على التدرّب والتطور المستمر، حتى صارت في مستوى يسمح لها بنقل تجاربها إلى خطاطين آخرين صاعدين، ومن أمثلة أعمالها الرائعة، اللوحة التي نتناولها هنا.
* سلاسة
اختارت الفنانة أن تخط لوحتها هذه مازجة بين نوعين من الخط العربي، هما النسخ والثلث، وأن يكون محتواها نص الآية 4 من سورة القلم، والتي يقول فيها جلَّ من قائل؛ مخاطباً نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وهو وصف جامع لخصاله عليه السلام، التي كان في كل واحدة منها كاملاً، إذ كان سهلاً ليناً، قريباً من الناس، مجيباً لدعوة من دعاه، قاضياً للحاجات، وجابراً لقلب من سأله، فلا يحرمه، ولا يرده خائباً، وإذا أراد أصحابه منه أمراً وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليساً له إلا أتم عشرته وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إليه غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال، ولذلك كانت هذه المضامين جديرة بأن تخلدها الخطاطة في عملها الفني.
إن مزج الخطاطة لنوعين من الخط العربي نابع من وضوح رؤيتها في ما يتعلق بالخصائص الجمالية، التي يمكن لكل منهما أن يضفي بها لمسة توصل المضامين إلى المتلقي في سلاسة ويسر، فأنجزت عملها في شكل تناظري بديع، ظهر فيه خط الثلث متراكباً في إبداع أسلوبي، حيث ضبطت قواعده وموازينه الصعبة، واجتهدت على استغلال مرونته، التي تساعد على براعة تأليف الحروف، ومتانة تركيب الكلمات، مراعية في دقّتها الابتعاد عن القصور الذي قد يشوّه جمال اللوحة، فكان تركيبها خفيفاً بديعاً، وكان تكوينها التناظري متقناً، حيث ربطت الحروف الممدودة بين الأجزاء التناظرية بطريقة هندسية سلسة، جنَّبت اللوحة التعقيد أمام المشاهد، ولم تؤثر في جمالية العمل وتناسق تكوينه، كما ظهر خط النسخ في خصائصه القريبة من الثلث، وما يتميز به من جمال التركيب، ودقة الحروف وتساوي حجمها، ووضوح الكلمات وسهولة قراءتها، وكونه يربط بين كل من الرصانة والبساطة، وكلها خصائص مكّنتها من إنجاز العمل في شكله العاكس لمضامينه.
* تناظر مزدوج
صمّمت الفنانة عملها في تكوين بيضوي تناظري، خلقت من خلاله جمالية بصرية آسرة، رغم قلة كلمات الآية التي اختارت نصها مضموناً للوحة، فقد استثمرت تلك القلة في تنفيذ تصميمها التناظري بشكل مزدوج، فعمدت إلى كتابة النص الأصلي في الجزء السفلي من الجانب الأيمن للتكوين، حيث كتبت «وإنك» منطلقة من اليمين إلى قلب الجملة المتراكبة، إشارة إلى النبي المُخاطب، وكتبت أعلاها «لَعَلَى» للإيحاء بمعناها، وكتبت «خُلُقٍ» أسفل النص مستعرضة وحاملة لكل كلماته للإشارة إلى عظم خلقه عليه السلام، وكتبت «عظيم» في حضن قاف «خلق» لتأكيد عظم ذلك الخلق، ثم ناظرت مع النص الأصلي نسخته بشكل مرآتي في الجزء السفلي من الجانب الأيسر للتكوين، وعمدت بعد ذلك إلى مناظرة الجزء السفلي المتناظر كاملاً بجزء علوي مطابق له في شكل مقلوب، وذلك في سلاسة بصرية متّزنة ورصينة، ساعدت فيها الحروف الممدودة المترابطة والمتشابكة، والتقويسات، والنقاط والتزيينات الطفيفة.
ولم تنس أن تحيط التكوين الخطي بإطار زخرفي بسيط، يتلاءم مع التصميم، ويضفي عليه رونقاً متناسقاً مع اللونين البني والأبيض، وهو تناسق يتناسب مع الخلق العظيم الذي يصف الله به رسوله الكريم في نص الآية.
* إضاءة
ولدت الخطاطة کولشن یلدز في مدينة قونية، وبعد استكمال دراستها في المرحلة الثانوية؛ بدأت تعلم خط الرقعة سنة 2005م مع عثمان دوران في مدرسة «ديستيغول» للفنون الجميلة، ثم تعلمت خط الثلث والنسخ على يد الخطاط فوزي غونيك، حتى حصلت على الإجازة في خط الثلث والنسخ 2009، وتخرجت من كلية التعليم المفتوح في جامعة الأناضول، قسم علم الاجتماع سنة 2019، وقد شاركت في العديد من المعارض ومسابقات الخط الدولية والمحلية منها: معرض «حب الرسول في فنّ الشباب» - آيا صوفيا 2018، ومعرض «الأربعين حديثاً» 2019 - يلدز القابضة - إسطنبول.
0 تعليق