الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
بعض الكتاب يمتلكون قدرة كبيرة في تناول عوالم البؤس والتراجيديا والأحزان، غير أن براعة المؤلف رهينة بمقدرته بتمرير ثقل تلك الأوجاع بالأدوات والتقنيات السردية، مما يجعل التجوال في تلك الحياة البائسة، بالنسبة للقارئ، ينطوي على بعض من الإثارة، خاصة أن الحكايات الحزينة صارت تجد قبولاً كبيراً في وقتنا الراهن، حيث يجد كل قارئ في تفاصيلها وخيوطها المتعددة بعضاً من حكايته، وتلامس شيئاً من أوجاعه الخاصة.
رواية «وطن»، للكاتب الإسباني فرناندو أرامبورو التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعته الأولى عام 2022، بترجمة: رفعت عطفة، تعد من الأيقونات السردية العظيمة في العصر الحديث، ولئن كان العمل يعود إلى الوراء من أجل استجلاء أحداث جرت في الماضي القريب حيث تاريخ إسبانيا الملتهب في سبعينيات القرن الماضي، فإن القيمة الجوهرية للسرد تكمن في أن العمل يعالج كذلك مواضيع راهنة وصراعات مكتومة داخل المجتمع الإسباني وربما الأوربي بصورة عامة، فالرواية تحمل نوعاً من التحذير من وميض النار الخافت، كما تتجول في عوالم شديدة القسوة، وهي تستعرض ذلك الظلم الذي وقع على جماعات وأفراد لا تظل آثاره مقيمة، ولا يزال الغبن يغطي الصدور، فالعمل يعد بالفعل ملحمة سردية شديدة القوة والتأثير.
صدرت النسخة الأصلية الإسبانية من الرواية عام 2016، حيث تُصوّر زوبعة العنف العاصفة التي هزّت المجتمع المجتمعَ الإسباني بعد موت الرئيس «فرانكو»، عام 1975 وتستمرّ إلى ما بعد إعلان منظمة «إيتا»، الانفصالية وقفَ إطلاق النار النهائي في عام 2011، وذلك من خلال تتبّع مصير علاقة أسرتين إحداهما بالأخرى: أسرة شاتو، وأسرة جوشيان، فقد رافق تلك الفترة ظهور شكل من القمع القاسي بحيث أنّ من يجرؤ على الخروج عن الامتثال لرؤية المنظمة وطريقتها في الوصول إلى غاياتها، أو ما أطلق عليه «المثل العليا»، لا يلبث أن يتعرّض لكلّ أنواع المضايقات والملاحقات، أقلّها التشهير به على الجدران، وأقصاها الاغتيال أو التفجير الذي يقوم به شباب خَلَت الرحمةُ من قلوبهم، كما هو حال ابن إحدى الأسرتين، فيقتلون أيّ شخصٍ، كائناً من كان، بمعزل عن طيبته وعلاقة الودّ والمحبّة التي تربطه بالقاتل، تلك هي العوالم المؤلمة التي تجري فيها الرواية، عالم قديم مطمئن هادئ ينسحب، ليحل مكانه آخر عاصف ملتهب، لا تتبدل الأشياء فقط، وفقاً لذلك، بل حتى المشاعر والعلاقات.
* حكاية
تتعمق الرواية في قصة العلاقة القوية التي جمعت بين ميرين وبيتوري، حيث كانتا صديقتين طوال حياتهما، نشأتا في البلدة الصغيرة نفسها في شمال إسبانيا، ومع الاهتمام المحدود بالسياسة، يبدو أن التهديد الإرهابي الذي تفرضه منظمة إيتا لا يؤثر فيهم إلا قليلاً، لكن ذلك الأمر لن يستمر طويلاً، وذلك عندما يبدأ زوج بيتوري في تلقي رسائل تهديد من المنظمة التي تطالبه بالمال، وتتهمه بأنه مخبر للشرطة، وهنا تلجأ بيتوري إلى صديقتها ميرين طلباً للمساعدة، غير أن ولاءات هذه الأخيرة كانت ممزقة، فقد تم تجنيد ابنها جوكس ماري للتوّ في المنظمة، وبالتالي فإن التنديد بهم، باعتبارهم أشراراً، سيكون بمثابة إدانة لابنها، ومن هنا تتصاعد التوترات وتتصدع العلاقات وتتسارع الأحداث نحو نهاية مأساوية عنيفة.
* مشهد
ويتطور السرد في الرواية بشكل عميق، وهو يتناول عالم القتلة والضحايا بين العائلتين، وذلك عندما أعلنت منظمة إيتا تخليها عن القتال والكفاح المسلح بصورة نهائية، لتبدأ فصول حياة جديدة في المجتمع الإسباني والباسكي بصورة أكثر خصوصية، ففي ذلك الوقت، تذهب الأرملة بيتوري لزيارة قبر زوجها تكساتو الذي قتل على يد المنظمة، وتخاطب زوجها المغدور وتخبره أن كل شيء قد انتهى، لقد مضت أيام «إيتا»، توقف العنف وانطوت صفحة الإرهاب، لكن بعد أن دفع الجميع أثماناً باهظة، ذلك مشهد فريد في الرواية، استطاع الكاتب أن يصوّره بعمق وصدق شديدين، ستظل تلك اللحظة راسخة بقوة في ذهن أي قارئ اطّلع على هذه التحفة النادرة.
* أسئلة حارقة
ونظراً للوضع الجديد، نهاية الإرهاب، تعود بيتوري، التي صارت تملك لقب «أرملة»، بعد أن راح زوجها نتيجة تلك الأحداث، تعود إلى البيت القديم والبلدة التي كانوا يعيشون فيها كأسرة قبل الهجوم الذي نفذته إيتا عليهم، وتحاول الزوجة في تلك المرحلة أن تكتشف ما إذا كانت شكوكها حول هوية قاتل زوجها قد انتهت، خاصة أنها كانت تشك بقوة أن القاتل هو ابن صديقتها «جوكس»، لقد انتهت حرب الإرهاب، لكن معركة الظنون والأسئلة الحارقة ظلت ماثلة.
* مصالحة الماضي
استطاع المؤلف أن ينسج تفاصيل قصة آسرة ومؤثرة، ونجح في رصد ذلك الدمار والتشظي الكبيرين اللذين أصابا أسرتين جمعتهما الصداقة والمحبة، ليتحول ذلك الحب الكبير إلى كره في ظل الإرهاب الذي حول الحياة نفسها إلى جحيم لا يطاق، لقد تفكك مجتمع كامل، وتكسرت صداقات متينة بدت غير قابلة للكسر، وتم تدمير مستقبل كثير من الأشخاص، وهنا تتكشف معاني ورسائل الرواية التي تبحث في كيفية العيش تحت ظلال الإرهاب، وكيف يمكن للبلدان وشعوبها أن تتصالح مع ماضيها العنيف وتصنع صفحة جديدة دون أن يتوارى ما حدث في طي النسيان، خاصة أن التكلفة كانت عالية، فلابد أن يظل كل شيء ماثلاً وباقياً حتى يتحول إلى درس يفيد الأجيال القادمة.
* رؤية
هذا العمل السردي يحمل الكثير من الأفكار والرؤى، التي يقدمها الكاتب بصورة لا تمس جماليات السرد بل تضيف إليها، حيث إن الرواية تتناول قضايا شديدة الأهمية مثل الدفاع عن حقوق الإنسان، والإرهاب، والهوية الثقافية وانقسامات الأسرة والمجتمع نتيجة للأصولية الإيديولوجية في التاريخ الحديث للعديد من الدول، وتدور قصص أبطال الرواية حول تدهور العلاقات الشخصية وتشظّي المجتمع نتيجة لذلك، فالمؤلف يمرر عبر 30 عاماً من المأساة حكايات من خلال الضحايا أنفسهم، وتنادي الرواية بضرورة دفع ثمن الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن والمواطن بذريعة سياسية وإيديولوجية، ففي هذا العمل يبحث المؤلف عن العدالة عبر السرد، وضرورة الإنصاف، رغم الألم والوجع الذي مازال يسيطر على قلوب الضحايا، فلابد من مداواة الجراح من أجل بناء مجتمع يمكن للجميع أن يتسامح فيه مع بعضهم بعضاً للعيش معاً في سلام.
* صدى
الرواية وجدت صدى كبيراً في كل أنحاء العالم، وفي إسبانيا بصورة أكثر خصوصية، لكونها تناولت حقبة لا تزال تؤثر في الحاضر، حيث قرأ هذه القطعة السردية الملحمية أكثر من مليون شخص داخل إسبانيا وحدها، وترجمت إلى العديد من اللغات من بينها العربي.
* اقتباسات
«لقد ماتوا ميتة مروعة وتافهة».
«إن طلب المغفرة يتطلب شجاعة أكبر من إطلاق النار، أو تفجير قنبلة».
«الطبيعة البشرية معقدة للغاية».
«يجب فتح النوافذ لتخرج الكلمات الحزينة العالقة بين الجدران».
«لا يوجد أي شيء يستطيع أن يحجب صوت حياتنا».
«آلة الإرهاب، بمجرد أن تتسارع، لا يمكن إيقافها».
«يا لها من راحة عندما تعلم أن مصيبة حدثت لشخص آخر وليست لك».
0 تعليق