الشارقة: جاكاتي الشيخ
لا يزال فن الخط العربي يواصل إبهارنا بما يمكن تقديمه من خلاله، لكونه فناً أصيلاً لا تنفد جمالياته، فهو الذي قال عنه الفنان التشكيلي العالمي بابلو بيكاسو: «إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد»، وتلك حقيقة يثبتها العديد من المشتغلين في هذا الفن من حين لآخر، مثل الفنان السوري عمّار خالد الدسوقي.
يركز خالد الدسوقي في أعماله على الالتزام بالقواعد والضوابط والأوزان الخطية، حيث يحافظ على العناصر المهمة في تشكيل اللوحة، مثل التركيب القوي والجذاب الذي يراعي قوة الحروف والاتزان وعلاقة الخط والفراغ، والإيقاع البصري الذي يعتمد على التماثل والتناظر، وتوزيع الوحدات المكونة للوحة، وتعدد المساحات، إضافة إلى كونه يجتهد في اختيار التقنية المناسبة لعمله الفني، مستفيداً من خلفيته في الفن التشكيلي لإبراز القدرة التجريدية لحروف الخط العربي، ما يجعله يسعى من خلال لوحاته إلى النفاذ من المعاني اللغوية المباشرة إلى الدلالات الرمزية والروحية للمضامين، كما فعل في هذه اللوحة.
تشكيل
اختار الدسوقي للوحته هذه نص الآية 26 من سورة الواقعة، التي يقول فيها تعالى:{إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}، مع اكتفائها بإحدى كلمتي «سلاماً»، وتتحدث الآية عن المؤمنين الذين يدخلون الجنة، فلا يسمعون فيها إلا تسليم بعضهم على بعض، إشارة إلى ما بينهم من أمن وسلام، وأن المكان لا يقال فيه إلا الكلام الطيب، فقد انتهى مع الدنيا زمن ما سواه من أنواع الكلام الأخرى، وذلك لأن الجنة دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا طيِّب، وهو دليل على حسن أدب أهلها في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب الكلام، وأسرُّه للنفوس، وأسلمُه من اللغو والإثم، ولذلك فإن اللوحة دعوة إلى التخلّق بخُلق أهل الجنة، وتذكير بجزاء من يعمل بعملهم، كما أنها اقتناص لرمزية نصها وروحانيته، التي يعكسها شكل الكلمات، وما في مضمونها من طيبة تسرُّ النفوس.
وقد كتب الدسوقي هذه اللوحة بالخط الكوفي المضفور، حيث تغلب على أعماله أنواع الخط الكوفي، لقناعته بضرورة إبراز الجماليات التي يتميز بها هذا الأسلوب الخطي الأصيل، فهو خط زخرفي هندسي، تعتمد إجادته على تمكن الخطاط من الاشتغال على النواحي الهندسية الدقيقة، ويتيح استثمار العديد من القدرات الإبداعية الخلاقة، وله طاقة تعبيرية ملهمة، حيث يمكّن الخطاط من امتلاك الحرية الكاملة في تصاميمه، نظراً لخصائصه المميزة مثل استقامة حروفه وطواعيتها واحتفاظها بجماليتها وإمكانية ضفرها، إضافة إلى قابلية هذا الخط للاستفادة من الأشكال المستحدثة التي يستلهمها الخطاط المبدع الملتزم بجوهر قواعده، منطلقاً بها في تحرير طاقاته الفكرية والخيالية والتعبيرية، من أجل الوصول إلى ابتكارات جديدة في تكويناته، يطل عبرها على آفاق مشرقة في الفن والإبداع، كما أنه خط سلس، يتيح للفنانين الموهوبين إمكانية التحسين والتطوير في أشكالهم الجمالية المختلفة، وهو ما عمل عليه في لوحته هذه، التي أتاح له نصها تشكيلها بصرياً بطريقة هندسية ملفتة.
بُعد بصري
صمّم الدسوقي لوحته بتكوين تناظري بديع، مستغلاً الخصائص الهندسية للخط الكوفي، وما تتيحه من دقّة في التنفيذ، فانطلق في خطّه من الجانب الأيمن، وكتب «إلا» في مستوى مرتفع، ضافراً الألف مع نفسها، في الْتواء عمودي، وراسماً الهمزة تحتها في مساحة منفصلة، فيما قوّس اللام ألف لتحيط بالألف من الجانبين، ضافراً لامها وألفها في منطقتين، بنفس طريقة الألف، وبالتوازي مع مكان ضفرها، تنبيهاً إلى الاستثناء المقصود في الآية الكريمة، والذي يأتي تالياً، حيث كتب «قِيلًا» في مستوى أخفض، ضافراً لام ألفها في امتداد يوازي الألف واللام ألف السابقتين ويتجاوزهما في الارتفاع، وواضعاً نقطتي حرف القاف لسدّ الفراغ المُتروك تحت همزة الألف الأولى، ليمنح العمل بعداً بصرياً كاسراً لرتابة الخطوط الهندسية المستقيمة، ثم كتب «سلاماً» كقاعدة حاملة للنص للدلالة على قوة رمزيتها وروحانيتها، حيث قابل أسنان حرف السين مع أطراف أحرف «إلا» المُتدلِّية، كما أنه مزج بين محجر لام ألف «سلاماً» ومحجر ميم «ما»، فيما ضفر لام ألفها في امتداد يوازي الأحرف الممدودة والمضفورة السابقة ويتجاوزها في الارتفاع، بينما ضفر ألف «ما» مع نسختها في النص التناظري الأيسر لتكونا نقطة ارتكاز الشكل التناظري العام، وليشكل الجانبان تكويناً مرآتياً في غاية الدقة والجمال، وكأن الخطاط قد أراد من الارتفاعات المتدرجة للأحرف الممدودة أن يؤكد قيمة هذا الاستثناء السلمي الذي خصّ به الله أهل الجنة.
وقد أجاد الدسوقي في ضفائر حروفه المتناسقة وتوزيع الوحدات المكونة لعمله، بما فيها تموضع النقاط، إضافة إلى اختيار الألوان، حيث لون السلام الأبيض، واللون الأخضر الذي يرمز إلى الجنة وأمنها وسلامها.
0 تعليق