«الثلث الجلي».. حكمة الحرف تأسر القلب - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يشتهر بعض الخطاطين بالقدرة على التجديد الدائم، من خلال استجلاء مكامن الجمال في فن الخط العربي، حيث يُمثل كل عمل من أعمالهم أيقونة، وقيمة مضافة إلى سلسلة الإبداعات الجديرة بالتقدير، والتحليل، والتقديم لعشاق هذا الفن، والمتطلعين إلى اكتشافه، ومن أولئك الخطاطين الفنان العراقي حاكم غنّام.
تمنح أعمال غنّام من يشاهدها للوهلة الأولى انطباعاً بأنه يمتلك كل مقومات التطور والحداثة، فالفن عنده قابل للتجديد والتغيير والتحديث، لأنه عشق الحرف منذ صغره، فنما هذا العشق في وجدانه، وتبلور مع مرور الزمن، من خلال بحثه الدائم عن كل ما يمكن أن يقدم في هذا الفن من تنويعات في أشكال حروفه، كما تبدو في أعماله الخطية قدرته على التحكم في استخدام الحبر، حيث يمنحه زهواً آسراً من خلال مزاوجته مع الورق ولون الخلفية المختارة، ما يُكسب أعماله جمالاً خاصاً، ويطبع تكويناته بميْسم الجِدّة والابتكار، ليصل إلى ذوق المشاهد بالعمق الدلالي لنصوصه، كما يظهر في لوحته التي نتناولها هنا.
* دِقّة
اختار غنّام للوحته نص الآية 16 من سورة القصص التي يقول فيها جَلّ من قائل، في قصة موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، وهو الدعاء الذي قاله موسى، حين ندم، بعد أن قتل نفساً دون قصد، ثم استغفر ربه، معترفاً بما حصل منه، فقال: «ربّ إني ظلمت نفسي»، «فاغفر لي»، فغفر الله له، لأنه غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، خصوصاً المخلصين، المبادرين للإنابة والتوبة، فصار ذلك الدعاء جارياً على ألسنة كل المؤمنين الراغبين في المغفرة من الله، حيث يعترفون بذنوبهم، لأن الاعتراف بالذنب أول خطوات التوبة، ثم يدعونه ليغفرها لهم لأنه غفور رحيم.
وقد كتب لوحته بخط الثلث الجلي، الذي يتميز بالمرونة والمطاوعة للتركيب، ما يمنح الخطاط الحرية في التشكيل داخل أي محيط، ليكون قادراً على استغلال المساحات لتنفيذ التصاميم اللازمة، والالتزام بعدة خصائص جمالية، مثل التحكم في تنويع شكل الحرف الواحد في اللوحة الواحدة حسب حاجة التكوين داخل التصميم الخطي، ودقة النّسب والمقاييس، من خلال منح الحروف والكلمات حقها من القصر والطول، والسعة والضيق والهيئة، لتحقيق التناسق الشكلي المطلوب، إضافة إلى خاصيتي التقاطع والتراكب في الحروف والكلمات، اللتين تحققان تميزاً خاصاً للبنية الخطية، ثم ملء الفراغات بالنقاط وحركات التشكيل والخطوط التزيينية المتنوعة، وكلها سمات تضفي على اللوحة رونقاً جمالياً خاصاً.
* طابع قوة
صمّم غنّام لوحته في تكوين هَرميّ، وكتب «ربّ» على القمة، فوق رأس الهرم، ليوحي بالتوجه في الدعاء إلى الله جلّ في عُلاه، ثم خطّ بقية النص في شكل هرميّ، فكتب «إنّي» مادّاً ألفها إلى الأعلى، في الجانب الأيسر من الشكل، وجاعلاً «ني» قاعدة للهرم حاملة للنص، حيث انطلق في كتابتها من الجانب الأيسر من الشكل كذلك، وكأنه بمقابلته ل«إني» في قاعدة الهرم النصِّي، و«ربّ» في قمّته يشير إلى المكانة التي يرى فيها العبد المؤمن نفسَه، وهو يدعو ربّه، معترفاً بذنبه ومتحمّلاً كلَّ الوزر المشار إليه بالكلمات المكدّسة فوق «إني»، ثم كتب «ظلمت» فوق «إني»، منطلقاً في كتابتها من الجانب الأيمن للتكوين، ومظهراً إياها بشكل عريض وواضح، ليؤكد تحمُّل الداعي لذنبه المتمثل في ظلم نفسه بفعله، وكتب أعلاها «نفسي»، في قلب الشكل، بياء ممتدة لتوازي طول «ظلمت»، للدلالة على قوة تأثير هذا الظلم في نفسه، ثم كتب «فاغفر» بشكل كبير، حيث تمتد حروفها مركَّبة من الجانب الأيمن للتكوين وحتى الجانب الأيسر، وقد جعل حرف الغين ضَخماً، مُدوّر القاعدة، لتأكيد أن هذا الدعاء رغبة كبيرة من المؤمن في مغفرة ربِّه لذنبه، ثم كتب «لي» مركّبة على «فاغفر»، وقد امتدّت لامها مشكِّلة رأس الهرم، ومتصلة ب«ربّ» المتربّعة على قمته، لتأكيد دلالة النص، وما يمثله من رغبة للعبد في الحصول على مغفرة الله الغفور الرحيم.
وقد شكّل التصميم العام للوحة امتداداً لطابع القوة والنضارة الذي تمتاز به أعمال غنّام، بما فيه الألفات الممدودة بتناسق بصري، وتَمَوْضع النقاط، والحركات والشدّات، والتزيينات الخطية، والزخارف النباتية والألوان المتناسقة، ما يمنح العمل إشراقاً وبهجة تسري في قلوب مشاهديها.
* إضاءة
ولد حاكم غنّام في سنة 1961، وتتلمذ على أيدي كبار الأساتذة في الخط العربي، فأجيز من قبل محمد أوزجاي، وأخيه عثمان أوزجاي، وهو حائز على درجة امتياز في مجال الخط العربي، وعضو جمعية الخطاطين ببغداد، وعضو اللجنة المنظمة لمعرض دبي الدولي للخط العربي سنة 2007، وعضو جمعية الفنون التشكيلية الإماراتية، ومنسق عام جائزة البردة - وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بالإمارات من سنة 2007 إلى سنة 2018، وحصل على العديد من الجوائز، منها جائزة الخطاطين الأوائل في المهرجان الأول للخط في العالم الإسلامي في طهران، وجائزة بالدورة الثالثة من مسابقة إرسيكا الدولية بتركيا، وجائزة المرتبة الرابعة بذات المسابقة في دورتها السادسة، وجائزة البردة بالإمارات في دورتها الرابعة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق