الشارقة: عثمان حسن
تتواصل إبداعات الخطاطين في ملتقى الشارقة للخط في دورته الحادية عشرة (تراقيم)، وهي إبداعات تطال جميع أنواع الخطوط المعروفة وخاصة الثلث الجلي؛ حيث يشارك الخطاط العراقي الدكتور حسين جرمط العبيدي بلوحة يستخدم فيها الآية القرآنية «وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا»(الإسراء-24)
هذه الآية التي تدعو المؤمن للدعاء لوالديه بالرحمة والمغفرة، وهذا أقل ما يمكن للأبناء أن يقدموه من معروف في حق والديهم كي يكسبوا رضى الله ومغفرته، وفي الآية ما يشبه سداد الدين، فلطالما تعطّف الآباء على أولادهم الصغار وأحسنوا إليهم، وربّوهم حتى اشتد عودهم.
هذه المعاني السامية، هي جُلّ ما تدعو إليه الآية الكريمة التي تحضّ على احترام كبار السن، وهي تنسجم مع الحديث الشريف؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر». وفي ذلك تنبيه إلى أهمية الرفق والشفقة على الصغير والتوقير والتعظيم للكبير.
*التكوين
من المعروف أن خط الثلث الجلي يمتاز بسمات وخصائص جمالية عديدة، وهذا يفسر إقبال الخطاطين على تجويده، وإبراز تلك الخصائص التي يكاد يتفرد بها هذا الخط عن غيره من الخطوط، وهذا ما أكده الخطاط د. حسين جرمط من خلال هذه اللوحة، التي أبرزت بعض هذه السمات والخصائص الجمالية للثلث الجلي، التي تظهر في تلك العلاقات البنائية داخل بنية حروف هذا الخط، كما هو واضح في التكوين الخطي للثلث الجلي، هذا التكوين الذي يبرز الحروف واتجاهاتها وحركتها البنيوية (إرسال الحروف والتفافها) ناهيك عن إمكانية تداخل الحروف واشتباكها واتصالها في ما بينها، بحيث تكون اللوحة الخطية بمنزلة قطعة أو كتلة جمالية بحد ذاتها، وهذا ما يستشعره الرائي أو المشاهد الذي يتوجه إليه الخطاب الفني البصري، ويطمح الخطاط كما هو د. حسين جرمط أن يبرزه.
أول ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة الخطية الآسرة، هو تناسق الألوان حيث الأسود والبني وتدرجاته مع الأبيض، وتلك الزخرفة النباتية التي تكسب اللوحة أبعاداً جمالية وبصرية مضافة، فمن حيث الشكل، راعى الخطاط حسين جرمط أن يخط الآية الكريمة باللون الأسود، مع ما يعنيه هذا اللون من بث الثقة في تقبل الله لدعاء الأبناء لوالديهم، وهناك اللون البني الذي يفيد معاني ارتباط الأبناء بآباهم، وهو ارتباط، فضلاً عن كونه علاقة غريزية، فهو ارتباط يمنح هذه العلاقة أبعاداً حميمية عز نظيرها عن باقي المخلوقات.
ومن يدقق في اللوحة يلحظ وبسهولة كيف استطاع د. جرمط أن يكوّن حروف وكلمات هذه اللوحة، منسجمة مع روحية الآية الكريمة، حيث حرص على وضع كلمة «صغيرا» بحجم صغير في أعلى يسار اللوحة، وهذا ينسجم مع فكرة الآية، التي توحي بأنه مهما كبر الإنسان، فإنه يظل صغيراً في عيون والديه، وهو استصغار إيجابي وليس سلبياً فيه الكثير من معاني العطف والرقة والإحسان من قبل الآباء تجاه أبنائهم.
تكرار وتباين
من الناحية الشكلية التي تحقق شروط الأبعاد الجمالية للثلث الجلي، فقد حرص د. حسين جرمط على بناء أو تكوين هذه اللوحة لتحقق جملة من الشروط الفنية من حيث توزيع الحروف وأشكالها على سطح اللوحة، فهناك خاصية التكرار، كما في حرف الواو في كلمة (وقل)، والراء في كلمة (ربياني)، ويتجلى هذا التكرار كذلك في حرف الميم، في كلمتي (ارحمهما) و(كما)، أما خاصية التباين، فتتجلى في اختلاف شكل حرف الراء، كما في كلمة (رب) على يمين اللوحة، و(ربياني) على يسارها، ومن يدقق أكثر في اللوحة فسوف يلمس الكثير من الأبعاد الجمالية ومن بينها (التناسب) كما يتجلى بوضوح في الألفات واللامات التي تبدو متناسبة من حيث امتداداتها على سطح اللوحة الخطية.
إضاءة
ولد الخطاط د. حسين جرمط في بغداد عام 1956، أنهى درجة البكالوريوس في كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد، واستكمل شغفه بالتعليم ليحصل على الماجستير والدكتوراه في فلسفة الخط العربي في الجامعة نفسها.. هو عضو جمعية الخطاطين العراقيين، وعضو جمعية التشكيليين كذلك، أنجز العديد من البحوث العلمية المنشورة، وشارك في مؤتمرات علمية وفنية عديدة، كما أنجز كتاب (خط الثلث الجلي.. دراسة جمالية في تنوعاته التصميمية)، وقد كتب العديد من اللوحات الخطية ولوحات السيراميك (القاشاني) التي زينت الكثير من المساجد ودور العبادة.
0 تعليق