القاهرة: مدحت صفوت
يشهد الأدب العربي حضوراً متزايداً نسبياً على الساحة العالمية، وذلك بفضل جهود الروائيين والشعراء العرب الذين يكتبون بلغات مختلفة، مثل الفرنسية والإنجليزية، إضافة إلى الجوائز الأدبية التي تشجع على ترجمة الأعمال العربية. أسماء المغربية ليلى السليماني التي عينها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ممثلته الشخصية للفرانكوفونية، بعد عام على فوزها بجائزة جونكور عن روايتها الثانية «أغنية هادئة» الصادرة عام 2016، وغيرهم، وهي أسماء أصبحت رموزاً للأدب العربي المعاصر خارج البلاد العربية.
ومع ذلك، فإن هذا الحضور لا يخلو من تحديات. ففي حين أن بعض الأعمال العربية تحظى بشهرة واسعة، فإن هناك العديد من الأعمال الأخرى التي لا تجد طريقها إلى القارئ الغربي، كما أن النظرة النمطية للثقافة العربية، المرتبطة غالباً بالصراعات تؤثر سلباً في تقييم الأدب العربي.
وتعتبر اللغة العربية عنصراً أساسياً في هوية الثقافة العربية، لكنها تواجه أيضاً تحديات كبيرة في الخارج، ففي حين أن «العربية» تستخدم كلغة رسمية أو لغة ثانية في العديد من الدول غير العربية، فإنها تفقد تدريجياً مكانتها لصالح اللغات العالمية.
جهود مضاعفة
وقبل أن نخوض في الإجابة عن سؤال: ماذا نعرف عن ثقافتنا العربية خارج الأقطار العربية؟، فإننا نؤكد أن الثقافة العربية تمتلك إمكانات هائلة للتأثير على الثقافة العالمية، لكنها تحتاج إلى جهود مضاعفة لتجاوز التحديات التي تواجهها. ويجب علينا جميعاً العمل على تعزيز حضور الثقافة العربية، ونشرها في العالم، وإبراز قيمها الإنسانية.
دعونا نتفق على أن الثقافة العربية، بتنوعها، تشكل منظومة معقدة من القيم والعادات والتقاليد والمعارف. بالتالي، فإن محاولة الإجابة عن سؤال حول مدى معرفتنا بالثقافة العربية خارج الوطن العربي يتطلب منا تحديداً دقيقاً لما نعنيه بالثقافة. فإذا نظرنا إلى الثقافة على أنها مجموع الإنتاج الفكري والإبداعي للشعوب، فإن الأدب يعتبر أحد أهم مظاهرها. ومن ثمّ يمكن أن نقول إن فهمنا لانتشار الثقافة العربية خارج الوطن العربي يمر عبر فهمنا لكيفية حضور الأدب العربي في الثقافات الأخرى، سواء من خلال كتابات الأدباء العرب بلغات أجنبية أو من خلال ترجمة الأدب العربي.
لكن قبل الحديث عن الأدب، نود أن نتوقف أمام حضور المخطوطات العربية في المكتبات الغربية، التي يعود اهتمام الغرب بها إلى أواخر القرن الخامس عشر، إذ بدأت هذه الحركة بترجمة النصوص العربية إلى اللاتينية، لكن سرعان ما أدرك الباحثون الغربيون أهمية الرجوع إلى المصادر الأصلية. ويشهد على ذلك تقديم مجموعة ضخمة من المخطوطات العربية إلى البابا يوجينيو الرابع عام 1441م، التي أصبحت نواة لمكتبة الفاتيكان. هذه الخطوة كانت نقطة تحول في دراسة المخطوطات العربية في الغرب.
وتُظهر خريطة توزيع المخطوطات العربية تبايناً واضحاً في تركز الموروث العربي حول العالم. فبينما تحتضن المكتبات الأوروبية، لا سيما في فرنسا وبريطانيا، حصة الأسد من المخطوطات العربية، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، وإن كانت بفارق كبير. وتُعزى هذه الفروقات إلى تاريخ العلاقات بين الدول الأوروبية والعالم العربي، ومدى اهتمامها بالدراسات الشرقية. أما روسيا، فتحتل مكانة بارزة بفضل جهودها في جمع المخطوطات العربية، خاصة في معهد الدراسات الشرقية في سانت بطرسبرج.
وبجانب المخطوات الشهيرة، تحل المخطوطات النادرة التي تعد كنوزاً ثقافيةً تحتفي بها الأمم وتعدّها ثروة وطنية تستدعي الحفظ والاهتمام والتدارس والعرض، ففي صفحاتها تسجل حكايات التاريخ، وتُخلدُ إبداعات الحضارات، ومن ثمّ فإنّ الاعتناءَ بها مسؤولية ثقافية وحضارية مشتركة، تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات، على حدٍّ سواء.
وتكمن أهميةُ الاعتناءِ بالمخطوطاتِ النادرةِ، في الحفاظ على التراث الثقافي، إذ تشكل جزءاً مهمّاً من التراث الثقافي للأمة. كما تعد مصدراً غنياً للمعرفة في مختلف المجالات، فضلاً عن كونها مصدراً للبحث العلمي في مجالات التاريخ والأدب والفلسفة وغيرها، إضافة إلى دور المخطوطات في تعزيز الهويةِ الثقافية.
دور
على صعيد التجمعات والمؤسسات الثقافية، ثمة حضور بارز، يتمثل في المراكز الثقافية التابعة للسفارات العربية التي تلعب دوراً مهمّاً في تنظيم الفعاليات الثقافية وتعريف المجتمعات الغربية بثقافتنا، كذلك الجمعيات الثقافية العربية التي تسهم في تنظيم الأنشطة الثقافية والاجتماعية، فضلاً المهرجانات الثقافية والفنية ومعارض الكتب التي تستقطب فنانين ومثقفين من مختلف أنحاء العالم العربي، أبرزها مهرجان مالمو للسينما العربية.
وفي قلب العاصمة الألمانية برلين، حيث تتقاطع الثقافات وتلتقي الحضارات، نشأت فكرة إقامة مركز ثقافي عربي يسعى إلى بناء جسور التواصل بين العالم العربي وألمانيا. هذا المركز، الذي يحمل اسم «بيناتنا»، تأسس عام 2017 على يد الشاب السوري مهند القانوني، بدافع إيمانه بأهمية الحوار الثقافي وتبادل المعارف، وبهدف تقديم صورة شاملة ومتنوعة عن الثقافة العربية، بعيداً عن الصور النمطية التي غالباً ما تسيطر على الإعلام الغربي. ويسعى المركز إلى تحقيق ذلك من خلال تنظيم مجموعة متنوعة من الفعاليات الثقافية والفنية، مثل حلقات الشعر والقصة، وعروض الموسيقى، والمعارض الفنية، وورش العمل، وحلقات النقاش.
وبفضل جهود مهند القانوني وزملائه، أصبح «بيناتنا» مقصداً للكثير من المثقفين والفنانين العرب الذين يعيشون في برلين، حيث يجدون فيه منصة للتعبير عن أنفسهم وعرض أعمالهم. كما يمثل المركز مكاناً للقاء وتبادل الأفكار بين العرب والألمان، مما يسهم في تقريب وجهات النظر وبناء علاقات صداقة. ولعل من أبرز ما يميز التجمع هو قدرته على جذب جمهور متنوع، يضم عرباً وألمانيين، مما يخلق أجواءً من التسامح والاحترام المتبادل، تسهم في وجود فهم أعمق للثقافة العربية وتراثها، وتساعد في كسر الحواجز التي تفصل بين الشعوب.
إن تجربة «بيناتنا» تعد نموذجاً يحتذى به في مجال العمل الثقافي، فهي تُظهر كيف يمكن للثقافة أن تلعب دوراً هاماً في بناء مجتمعات أكثر تسامحاً وتفهماً. كما أنها تؤكد أهمية المبادرات الفردية في إحداث تغيير إيجابي.
ازدواجية اللغة
من جهة مقابلة، يشهد المشهد الأدبي العربي المعاصر ظاهرة متنامية تتمثل في كتابات العديد من الأدباء بلغات غير العربية، مثل الإنجليزية والفرنسية. هذه الظاهرة، التي قد تبدو للوهلة الأولى تناقضاً مع الهوية العربية، هي في واقع الأمر تعبير عن تفاعل الثقافات وتوسع آفاق الإبداع الأدبي. فقد دفع العديد من العوامل الأدباء العرب إلى الكتابة بلغات أجنبية، منها الرغبة في الوصول إلى جمهور أوسع، والانفتاح على ثقافات أخرى، والتعبير عن تجارب الهجرة والاغتراب. وبالفعل أسهمت هذه الكتابات في إثراء الساحة الأدبية العالمية، وتعريف العالم بالثقافة العربية من زوايا جديدة.
ولعل أبرز ما يميز هذه الكتابات هو قدرتها على الجمع بين الهوية العربية والخصوصية الثقافية، وبين الشمولية العالمية. فالأدباء العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية، وإن كانوا يستخدمون لغة غير لغتهم الأم، إلا أنهم يحملون همومهم وهويتهم الثقافية، ويعكسون في كتاباتهم قضايا مجتمعاتهم وتاريخهم. كما شهدنا في السنوات الأخيرة ازدهاراً ملحوظاً في هذا المجال، حيث ظهرت أسماء لامعة مثل هشام مطر وأمين معلوف. لكن هذه الظاهرة تواجه أيضاً بعض التحديات، منها صعوبة في ترجمة بعض المعاني والدلالات الثقافية، ونظرة البعض إلى هؤلاء الأدباء على أنهم قد تخلو عن هويتهم العربية. إلا أن هذه التحديات لم تمنع هؤلاء الأدباء من الاستمرار في الإبداع والتأثير في المشهد الأدبي العالمي.
بوعلام صنصال، ورشيد بوجدرة، وياسمينة خضرة، وإدمون عمران المليح، والطاهر بن جلون، وإتيل عدنان، وتوني حنانيا، وأمين معلوف، ونبيل صالح، وفادية فقير، ووجيه غالي، وجمال محجوب، وليلى أبو العلا، وراوي الحاج، وغيرهم من الأدباء العرب الذين يكتبون بلغات أخرى يشكلون جسراً ثقافياً بين العالم العربي والعالم الغربي، ويسهمون في تعزيز الحوار بين الثقافات، وإزالة الحواجز التي تفصل بين الشعوب، ما يمكننا من القول بأن الكتابة باللغات الأجنبية ظاهرة طبيعية تعكس تفاعل الثقافات وتطور الأدب العربي. وهي ظاهرة إيجابية تسهم في إثراء الساحة الأدبية العالمية، وتعريف العالم بالثقافة العربية من زوايا جديدة.
ثروة
تعتبر الثقافة العربية ثروة إنسانية يجب الحفاظ عليها ونشرها. وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها، إلا أن الثقافة العربية لا تزال حاضرة وقوية في العديد من دول العالم. ومن الضروري العمل على تعزيز هذه الثقافة ونشرها، وتعريف العالم بأبعادها الحضارية والإنسانية.
0 تعليق