الرأسمالية الرقمية.. الحياة لعبة فيديو - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

القاهرة: الخليج
يكشف دانيال كوهين في كتابه «الإنسان الرقمي والحضارة القديمة»، ترجمة د. علي يوسف أسعد، أننا الآن أمام اقتصاد جديد، وحساسية جديدة، وأيديولوجيات جديدة؛ إذ أحدثت الثورة الرقمية إصلاحاً جذرياً للمجتمع وتمثيلاته، على غرار التحوّل الكبير الذي أحدثته الثورة الصناعية، في هذا المجتمع الجديد، لم يعد الأمر يتعلق بشراء الأشياء أو الغسالات والمكانس الكهربائية، بل باستهلاك الأوهام الفردية أو الجماعية.
من الناحية الاقتصادية، يمكن القول إن الثورة الرقمية «صنعت المجتمع ما بعد الصناعي»، هذا الاصطلاح يشير إلى عالم لم يعد فيه النشاط الرئيسي، يتمثل في الزراعة أو في إنتاج سلع مصنعة، بل في العناية بالبشر أنفسهم وبأجسادهم وخيالهم، فكل شيء يتم عبر الإنترنت، من أجل أن يكون الترفيه والتعليم أو العلاج أو التودد في الحديث أموراً متاحة بأقل كلفة.
يشير المؤلف إلى أن الجامعة، على الرغم من نقاط ضعفها، تقدم نموذجاً لمجتمع قائم على الاحترام المتبادل، والثقة في القيم المشتركة، والتحدي الذي يواجه العالم المعاصر، يكمن في توسيع هذه الفكرة، لتشمل المجتمع بأسره، هذا ما يتطلب إعادة بناء المؤسسات الشاملة، التي تكافح الفوارق الاجتماعية.


*بدائل
نحن بحاجة إلى جامعات يكون فيها التنوع الاجتماعي أمراً ضرورياً، مهما كان الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق ذلك، وفي مجال الحياة السياسية يجب أن نبحث عن أشكال من التنظيم تكون شاملة، من دون أوهام حول قدرة شبكات التواصل الاجتماعي على إنتاج بديل للأحزاب التقليدية بمفردها، فهذه الأحزاب كانت تتمتع بميزة التوفيق بين الأكوان الاجتماعية المختلفة، وكان لهذه الأحزاب ميزة البحث عن نقطة توازن بين الحلم والواقع.
يوضح هذا الكتاب أنه بطريقة غير متوقعة على الإطلاق، كانت جائحة كورونا بمنزلة حافز لهذا التحول الكبير، والفائزون في الأزمة هم: أمازون وآبل ونتفيلكس، أي الشركات التي ارتفعت قيمتها السوقية، خلال الحظر المنزلي، ارتفاعاً صاروخياً، هذه الشركات جعلت من الممكن العمل عن بعد، والحصول على السلع من دون الحاجة إلى الذهاب إلى متجر، والاستمتاع من دون الذهاب إلى مسرح أو قاعة حفلات موسيقية.
كان الجميع قادرين على فهم هدف الرأسمالية الرقمية، فهو يكمن في تخفيض كلفة التفاعلات المادية قدر الإمكان، والاستغناء عن الالتقاء وجها لوجه، ولكي تزيد الرأسمالية من الأداء، فإنها أبطلت مادية العلاقات الإنسانية.
لا يبحث الإنسان الرقمي عن معلومات في الإنترنت، بل عن معتقدات تستهلك مثل البضائع العادية؛ إذ إن كل واحد يكتشف في المتجر الرقمي الكبير الحقيقة التي تناسبه، كما لو كنا في مسرحية من مسرحيات بيرانديللو، ولكي نفهم التحول الحالي لابد أن نستوعب العملية التاريخية، التي يشكل هذا التحول لحظة فيها، وإلا سنقع في حتمية تريد للتكنولوجيا أن تحتفظ بمفردها بمفتاح الحضارات.
وصلت الثورة الرقمية إلى ذروتها بتفكك المؤسسات التي تشكل المجتمع الصناعي، سواء كان الأمر يتعلق بالشركات نفسها أم بالنقابات العمالية أم الأحزاب السياسية أم بوسائل الإعلام، هذه العملية نفسها هي نتاج مباشر للصدمة الليبرالية في الثمانينات، التي أرادت توسيع مكانة السوق، والمنافسة في جميع الاتجاهات الممكنة، من دون وساطة، أو من دون هيئات وسيطة.
الإنسان الرقمي الذي ورث هذه السلالة الغريبة، هو في الوقت نفسه منعزل، ويشعر بالحنين إلى الماضي، ليبرالي ومناهض للنظام، لقد وقع في فخ مجتمع تحول إلى تجمع من الأفراد الراغبين في الهروب من عزلتهم، عن طريق تكوين مجتمعات وهمية، ومع ذلك فإن فكرة مجتمع يقدم لكل فرد فرصة الانخراط وحده في ألف محادثة موازية هي أسطورة ثقيلة الوطء.
*فوارق
يقول المحلل النفسي بيير ليجيندر: «يعيش الناس بما يتجاوز قدراتهم النفسية» هذه العبارة يمكن تعميمها، في الحقيقة يعيش الإنسان فوق إمكاناته، سواء أكانت نفسية أم بيئية، فالكوارث التي حدثت منذ بداية القرن، أظهرت أن هناك شيئاً ليس على ما يُرام في «العالم الواقعي» وتتابعت الأحداث بسرعة، فذكرتنا جائحة كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا بطريقتها الخاصة، بأن الحياة ليست لعبة فيديو.
الخبر السار هو أننا لا نعيش في مسلسل خيال علمي، التكنولوجيا لم تسيطر على حياتنا، فهي وسعت ميول المجتمع وضخمتها، وجسدت دوافعنا الكامنة، لكنها لم تخترعها، كما أن الثورة الرقمية وبطريقتها الفاسدة، رسمت بشكل مجسم أيضاً طريقاً مبهجاً، يقود إلى عالم كل كلمة فيه تستحق أن تسمع، ولا تثقله حقيقة متسامية.
*طريق جديد
استكشفت تلك الثورة طريقة جديدة للحياة، لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحضارات، أي مجتمع يريد أن يكون أفقياً وعلمانياً، أي يخلو من العلاقات الرأسية، التي كانت لا تزال سائدة في المجتمع الصناعي، ومن تدين المجتمعات الزراعية، ولعله مجتمع أقرب إلى مجتمع الصيادين، وملتقطي الثمار.
يرى المؤلف أن «الطريق لا يزال طويلاً أمامنا، لنفهم ببساطة ما تعنيه هذه المدينة الفاضلة، ولا شك أن الشبكات الاجتماعية، توفر الأدوات لتحقيق ذلك، لكن بشرط إعادة اختراع جميع أغراضها، يجب أن نتصدى لهذا التحدي، وأن نستخدم ملَكة إبداعنا، لتصوّر مجتمع مرغوب فيه، باللجوء إلى الوسائل، التي يوفرها المجتمع الذي نريد تركه».

أخبار ذات صلة

0 تعليق