الشارقة: علاء الدين محمود
ضرب جمهور المسرح موعداً مع المتعة البصرية، أمس الأول الجمعة، في فاتحة النسخة الثامنة لمهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، وذلك عبر العرض الإماراتي «الرداء المخضب بالدماء»، لمسرح الشارقة الوطني، وهي رائعة صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، وإخراج محمد العامري، بأداء نخبة كبيرة من الممثلين الإماراتيين والعرب على رأسهم: أحمد الجسمي، وملاك الخالدي، وأحمد العمري، وعبدالله مسعود، وأحمد عبد الرازق، ومحمد جمعة، ورائد الدالاتي، ومحمد بن يعروف، ونخبة من نجوم الفن والتمثيل، فيما كان الأداء الحركي والتعبيري لـ«فرقة أورنينا الاستعراضية».
العرض جاء في ثوب ملحمي قشيب ومطرز بألوان زاهية تعكس روعة الماضي والتاريخ العربي، ويتحدث عن تلك القيم التي لم تغيرها السنوات، فقد ظلت راسخة في وجدان الإنسان العربي ينهل منها في كل حين، حيث الشجاعة والنخوة والمروءة والكرم تحولت إلى سمات يعرف بها البشر الذين ينتمون إلى هذه الجغرافية والثقافة والحضارة، فالعرض لا يتجول في الماضي فقط دون أن يكون للراهن حضوره، وكأنه يريد أن يقول إن الظروف مهما تراكمت في أفق الإنسان العربي، ونالت منه المتغيرات ما نالت، فهو صاحب تراث راسخ وغني، وما أحوج البشر في عالم اليوم إلى تلك القيم والأخلاق الفاضلة التي حملها ذلك التراث الذي يحض على علو الهمة وإباء الضيم والشجاعة والإقدام والكرم ومواجهة المصاعب والتحديات بجلد وصبر وثبات، وقد لقي العرض قبولاً كبيراً من الجمهور العريض الذي توجه نحو صحراء الكهيف في الشارقة لمتابعة هذا العمل المسرحي المتميز والمتكامل نصاً وإخراجاً.
حكاية
يستند النص إلى حكاية من قصص البطولة العربية التي جرت في زمن قبيل عصر الإسلام في حي عربي قطنته قبيلتا فقعس والعبدي، وهي قصة حب جرت في صحراء العرب بين بشر بن عوانة وابنة عمه فاطمة، وكانت ذات حسن وجمال، حتى ذاع أمر جمالها الشديد بين العرب، حيث شغف بها بشر وأحبها حباً جماً، وبادلته هي ذات المشاعر، فأراد أن يتقدم لخطبتها كي يتزوجها، إلا أن والد الفتاة الأمير عمر بن فقعس، وكان هو الأمير على القبيلتين، كان له رأي آخر، خاصة بعد أن شاعت قصة الحب تلك بين أحياء العرب، وظل بشر يحاول أن ينال رضا عمه فتقدم للفتاة أكثر من مرة، وظل والدها يرفض في كل مرة، خاصة أن أناساً في القبيلة أوغروا صدره تجاه ابن أخيه بشر، حيث كانوا يتهمونه بالطيش، وأنهم قد لاقوا منه عنتاً كبيراً، في حين كانت الفتاة متمسكة بابن عمها لا تحيد عنه.
وكان لبشر بن عوانة العبدي مكانته الكبيرة بين القبيلتين، رغم ما اتهم به من طيش، فقد كان هو فارس ذلك الحي من العرب، عرف بالبسالة والشجاعة والإقدام والجود والكرم، فكان أن حز في نفسه أن يتم التفريق بينه وبين محبوبته، خاصة مع مكانته تلك.
وبعد أعاد بشر طلبه مرة بعد مرة، اشترط عليه والد الفتاة أن يأتيه بألف ناقة من نوق خزاعة كمهر لابنته، وهنا قبل بشر ذلك الشرط الذي بدا قاسياً بعض الشيء، وعلى الرغم من ذلك فقد لام أعيان من القبيلة والد الفتاة على كونه قد وافق على الخطبة، غير أنه قد أوضح لهم أنه قد فعل ذلك لتدبير في نفسه، فالطريق نحو خزاعة ببطن وادي «خبت»، وعر المسالك وتحيط به المخاطر من كل جانب، وكان معروفاً في ذلك الزمان أن الطريق يسكنه أسد فتاك مفترس يدعى دادا، وحية سامة تدعى شجاعة، وانتشرت قصة الأسد والحية بين العرب في ذلك الزمان حتى صارت مثلاً فيقال «أفتك من دادا ومن شجاع».
غير أن بشراً مضى في طريقه غير هياب ولا خائف، وبالفعل، لقيه الأسد دادا في ذلك الوادي الموحش المخيف، فنزل بشر من فرسه، وأخذ يقاتل الأسد حتى تمكن منه وقتله، ولم يكتفِ بشر بذلك، بل كتب بدم الأسد على قميصه قصيدة تروي تلك الملحمة لابنة عمه، ويقول مطلعها:
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَـبْـتٍ.. وَقَدْ لاَقى الهِزَبْرُ أَخَاكِ بِشْـرَا / إِذاً لَـرَأَيْتِ لَـيْثـاً زَارَ لَـيْثـاً.. هِزَبْرَاً أَغْلَباً لاقـى هِـزَبْـرَا / تَبَهْنَسَ ثم أحجم عَنْهُ مُهْـرِي.. مُحَاذَرَةً، فَقُلْتُ: عُقِرْتَ مُهْـرَا / أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الأَرْضِ؛ إِنِّـي.. رَأَيْتُ الأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْكَ ظَهْرَا / وَقُلْتُ لَهُ وَقَدْ أَبْـدَى نِـصـالاَ.. مُحَدَّدَةً وَوَجْهاً مُـكْـفَـهِـراًّ / يُكَفْـكِـفُ غِـيلَةً إِحْـدَى يَدَيْهِ.. وَيَبْسُطُ للْوُثُوبِ عَلـىَّ أُخْـرَى.
وهي قصيدة طويلة محتشدة بصور البطولة والشجاعة وممتلئة بالقيم والأخلاق النبيلة، وتوجه بشر بقميصه هذا إلى حيث مضارب الحي، وأعطاه لفاطمة مهراً لها، ونال ذلك الفعل إعجاب والد الفتاة أيما إعجاب، وندم على أنه منذ البدء لم يزوج ابنته لهذا الفارس الشجاع والنبيل، فلا شك أن ابنته في يد أمينة مع هذا الفارس المقدام.
القصيدة تعدّ من الأشعار المعروفة والمشهورة بين العرب إلى يومنا هذا، ولا شك أن القصة بأكملها تحمل الكثير من الدلالات والمعاني، فتلك القصص والحكايات التي حملتها بادية العرب حفظت الكثير من الأخلاق والعادات والتقاليد الإيجابية التي شكلت هوية الإنسان العربي، ومن هنا تكتسب هذه الحكاية أهميتها فهي تربط بين العرب وتراثهم، ولا شك أن النص جاء منسجماً مع فكرة المسرح الصحراوي نفسه، والذي يطرح مثل هذه القصص والحكايات، ويعكس مضامين التراث العربي ويربطه بالحاضر، وهو بمثابة تحذير من أن يغترب العربي عن هويته وجذوره، ويتبنى قيماً أخرى لا ينتمي إليها ولا تشبهه، حينها تضيع خصوصيته الحضارية والثقافية وتتبدل قيمه، وتلك المعاني هي ما يربط مثل تلك الحكايات بالحاضر.
مقاربات إخراجية
المخرج أحمد العامري تصدى للنص بروح المبدع، واستطاع أن يجري جملة من المقاربات والرؤى الإخراجية التي تضيف للنص وتصنع عرضاً متميزاً، فكان أن وظف عدداً كبيراً من المجاميع نجح في تحريكها في ذلك الفضاء الفرجوي الممتد، حيث احتشدت الساحة بالفرسان ومفردات المكان وذلك الزمان الذي جرت فيه الحكاية من خيل وجمال وخيام، وقام بتقسيم المكان إلى عدة أجزاء صنعت تفاصيل صورة العرض.
وشهد العمل الكثير من اللوحات والصور الجمالية، خاصة في الاشتغال على الخلفية التي هي عبارة عن تلال رملية، على سبيل المثال فإن القصيدة التي كتبها بطل الحكاية بشر على قميصه، جاءت كلماتها منعكسة على تلك الرمال، وكأن المغزى من ذلك أن تلك الكلمات القوية والمؤثرة والمحتشدة بجليل المعاني قد انتشرت بين صحراء العرب وقاطنيها، وذاع صيتها في كل مكان، وكانت تلك لفتة جمالية بارعة ومضيئة في العرض.
وكذلك كانت البراعة في توظيف الأزياء التي تنتمي إلى ذلك العصر الذي شهد القصة، وكذلك الشعر والرقصات والحركات الأدائية والموسيقى والأهازيج، وجاء العمل بشكل ومضات ونقلات متسارعة بفواصل موسيقية وأدائية بين المشاهد، الأمر الذي جعل المتعة حاضرة وكسر حاجز الملل، فقد نجح المخرج وخلال عرض قصير أن يستخدم ويوظف الكثير من التقنيات والأدوات المسرحية، وجاء الأداء التمثيلي الرائع ليشكل رافعة لهذا العرض الجميل والممتع والمفيد والذي لقي إشادة واسعة في المسامرة النقدية التي أعقبته.
0 تعليق