أثر ثورة النفط والغاز الصخريين على اقتصاد أمريكا ومواردها المتجددة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في غابات التلال الكثيفة شمالي بنسيلفانيا يقود ترابر وايمان شاحنته الصغيرة منحدرا بها في طريق حصوي ينتهي عند فسحة صغيرة خالية من الأشجار. إنها موقع صناعي متواضع به شبكة من الأنابيب والصمامات وعدد قليل من وحدات أشبه بالمحركات وفي حجم سيارات الدفع الرباعي. بالموقع عامل واحد يشرف على كل شيء. عملية استخراج الوقود الأحفوري تجري هنا في صمت. فأنت لا تشاهد آبارا حُفِرت بعمق 10 ألف قدم تحت الأرض ثم مُدَّت أفقيا الى حوالي 10 آلاف قدم أيضا. كما لا تشاهد الغاز الذي يندفع إلى أعلى ثم ينتقل عبر خط أنابيب يجتاز البلاد. هذا هو تشكيل «مارسيلَس». إنه مجموعة من الصخور الغنية بالوقود الأحفوري. ترابور وايمان وهو مالك شركة رافعات محلية يتحدث بتوقير شديد عن هذا الموقع. يقول: «أنت ترى فقط قطع مارسيلَس صغيرة تتناثر فوق الأرض. لكنه مثل مصنع عملاق ينتج الطاقة لأمريكا والعالم».

المارسيلَس نوع واحد فقط من عدة تشكيلات صخرية شبيهة في الولايات المتحدة تمتد من صخور باكِن الغنية في مونتانا وداكوتا الشمالية وإلى الحوض البيرمي الذي يحوي نفطا وغازا في تكساس ونيو مكسيكو. انطلقت ثورة استخراج موارد النفط والغاز التي يصعب الوصول إليها في الولايات المتحدة في النصف الأخير من القرن العشرين مع سعي خبراء وباحثي الشركات والحكومة للجمع بين التكسير المائي (حقن سوائل خاصة لِشَقِّ الصخور) والحفر الأفقي. مع تحسين هذه التقنيات في أوائل العشرية الأولى زاد الإنتاج. والآن تنتج أمريكا حوالي 13 مليون برميل في اليوم من النفط و3 بلايين متر مكعب في اليوم من الغاز الطبيعي مما يجعلها أكبر منتج في العالم لكلا الموردين.

كانت الانعكاسات الاقتصادية لثورة النفط والغاز الصخريين بعيدة الأثر. أوضح ما يكون ذلك أنها غيرت العلاقة التجارية للولايات المتحدة مع العالم. فأمريكا بعد أن كانت من كبار مستوردي النفط لفترة طويلة من الزمن بدأت احتياجاتها من وارداته تتراجع في عام 2008 وبالضبط مع بداية الانطلاق الحقيقي لإنتاجها من حقول النفط الصخري. وبحلول عام 2019 كانت ولأول مرة خلال أكثر من نصف قرن تصدِّر موارد طاقة أكثر مما تستورد. (على الرغم من أنها تنتج أكثر مما تستهلك محليا إلا أنها لا تزال تستورد كميات ضخمة من النفط لأنها تحتاج إلى بعض الأنواع التي تنتج فقط في الخارج.) وفي العام الماضي سجلت أمريكا فائضا صافٍ من الطاقة بقيمة حوالي 65 بليون دولار.

تأثير بطرائق عديدة

عزز إنتاج النفط والغاز الصخريين نمو الاقتصاد الأمريكي بطرائق عديدة. تحديدا أدى تراجع الواردات والزيادة في الصادرات إلى تحسين ميزان المدفوعات. ففي معظم القطاعات الأخرى تشتري أمريكا من العالم أكثر مما تبيع له. لقد قلل الغاز الصخري الوفير الذي يصعب تصديره أسعار الطاقة المحلية وأتاح بذلك نقودا لمزيد من الاستهلاك والاستثمار. وعلى الرغم من أن العديدين فقدوا أموالا في الاستثمار في النفط والغاز الصخريين في العقد الماضي لأنهم أفرطوا في المخاطرة بتكلفة عالية إلا أن من صمدوا منهم صاروا أكثر انضباطا وكفاءة مع تراجع عدد الحفارات ولكن أيضا ارتفاع الإنتاج. في ورقة لبنك الاحتياطي الفيدرالي في دلاس، قدَّر ماين يوسيل ومايكل بلانت أن ازدهار إنتاج موارد الطاقة أضاف حوالي 1% للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الفترة من 2010 إلى 2015 أو حوالي 10% من نمو الاقتصاد خلال تلك الفترة. وهذا تعزيز ربما لا يزال مستمرا. وفي المناطق التي شهدت الازدهار كان التأثير أكبر. والتوقيت أيضا كان لافتا. ففي معظم أمريكا كما هي الحال في أغلب بلدان العالم يقرن الناس الفترة من 2007 إلى 2009 بالأزمة المالية العالمية وبارتفاع حاد في البطالة. في أماكن مثل ويليامسبورت وهي مدينة في شمال بنسلفانيا تعتبر مركزا للحفر في صخور مارسيلس يتذكر الناس تلك الفترة باعتبارها بداية الازدهار. يقول جيسون فينك من غرفة تجارة ويلياسبورت: «كانت هنالك شركات جديدة تأتي إلى المدينة. وكانوا يأتون في وقت يشهد حقا تباطؤا في كل شيء آخر». على الصعيد الوطني زاد التوظيف في مجال استخراج النفط والغاز بنسبة 60% إلى 200 ألف عامل بين الفترة 2005 و2015. وتراجع لاحقا مع تحسن فنون الإنتاج. مع ذلك لا تزال الآثار المترتبة عن ازدهار الإنتاج أكثر أهمية وتراوحت من النمو في الخدمات المساندة للتكسير المائي وإلى تعافٍ محدود في الصناعة عززه جزئيا رخص الطاقة. لكن الأثر الاقتصادي الأكبر هو أن استخراج النفط والغاز بالتكسير المائي ساعد على حماية الاقتصاد الأمريكي من تقلب سوق النفط العالمية. في الماضي كانت الصدمات النفطية مصدرا لعدم الاستقرار الاقتصادي في أمريكا، تماما كما في البلدان الأخرى. فالزيادات في الأسعار رفعت معدل التضخم وأضعفت النمو على نحو ما حدث بشكل بالغ القسوة خلال فترة التضخم الجامح في السبعينيات. في السنوات القريبة كان ذلك أخف وطأة. فارتفاع الأسعار قاد إلى زيادة الإنتاج المحلي للنفط والغاز ودعم بذلك النشاط الاقتصادي بقطاع الطاقة فيما كانت الأسعار المرتفعة تلحق الضرر بمستخدمي الشق الأدنى «منتجات النفط والغاز الطبيعي». في عام 2022 وبعد فترة وجيزة من بداية حرب أوكرانيا صعدت أسعار الغاز إلى عنان السماء مع وقف روسيا شحنات غاز الأنابيب المتجهة إلى الغرب. وفي أمريكا التي كانت بها وفرة لم يسبق لها مثيل في الغاز ارتفعت الأسعار قليلا لكن لم ترتفع أبدا بما يزيد كثيرا عن ربع مستوى ارتفاعها في أوروبا.

استخراج النفط والغاز من التشكيلات الصخرية يسلط الضوء أيضا على جذور القوة الاقتصادية لأمريكا. فمساحتها الشاسعة وخصوصيتها الجيولوجية منحاها ترسبات استثنائية من النفط والغاز. وكلاهما أكثر وفرة وأيسر في الحفر مقارنة بمثيلاتها في البلدان الأخرى. القوة الدافعة للرأسمالية الأمريكية تتجلى أيضا في آبارها النفطية والغازية. فخلافا للعديد من البلدان الأخرى تسمح أمريكا للأفراد بامتلاك المعادن تحت أراضيهم. شجع ذلك مئات الشركات الكبيرة والصغيرة على الدخول في مجال استخراج النفط والغاز الصخريين. ومع حفرها المزيد من الآبار شكلت صورة أفضل للمناطق الأكثر غني بالنفط والغاز. كان هذا عامل تمييز مهم بين أمريكا والبلدان التي تتحرك فيها شركات النفط الوطنية المتثاقلة بقدر أكبر من التراخي.

حماية جيدة للاقتصاد

يقول شيجو جو رئيس قسم الكهرباء والطاقة المتجددة بالشركة الاستشارية «وود ماكنزي»: كلما زاد حفر آبار النفط والغاز كلما ترجح احتمال العثور على ترسبات وفيرة. والآن مع استكمال مسوحات جيولوجية واسعة يعلم منتجو الطاقة أين يحفرون آبارهم الجديدة. التكسير المائي غير محبوب بسبب آثاره السلبية مثل تسريب غاز الميثان (وهو أحد غازات الاحتباس الحراري) من الآبار والأنابيب وأيضا إيجاده مخلَّفات سائلة بالإضافة إلى مخاطر الزلازل خصوصا في المناطق التي يُعاد فيها حقن هذه المخلفات في جوف الأرض. لكن هذه الانتقادات تُبخِس الآثارَ الإيجابية حقَّها. ففي الواقع استخراج النفط عبر التكسير المائي في أمريكا يحتاج إلى قدر ضئيل من الطاقة. وهو ما يعني أن الانبعاثات المباشرة من هذه العملية متدنية نسبيا. والغاز المنتج أنظف بكثير من الفحم الحجري الذي كان في السابق أحد موارد الطاقة الرئيسية في الولايات المتحدة. وكان جزءٌ كبير من خفض انبعاثات الكربون في توليد الكهرباء خلال العقدين الماضيين ناتجا من التحول إلى استخدام الغاز. هذا يطرح سؤالا هو: هل تتحول ثروة أمريكا من النفط والغاز الصخريين إلى عائق يُدخلها في «فخ وقود أحفوري» بتعطيل الابتكار والاستثمار في الطاقة النظيفة؟

كدليل على أن هذا ربما يحدث سلفا، أشار دارون اسيموجلو الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وزملاؤه إلى تراجع إصدار براءات الاختراع في مجال الطاقة المتجددة في الولايات المتحدة من 1.9% من جملة البراءات الصادرة في عام 2009 إلى 0.8% في عام 2016. الغاز جيد في معالجة المشكلة حتى الآن. «لكن في لحظة ما إذا كانت هنالك رغبة في بلوغ الحياد الكربوني لن يكون جيدا بما يكفي،» حسبما تقول سامانثا قروس مديرة مبادرة أمن الطاقة والمناخ وزميلة السياسات الخارجية بمعهد بروكنجز.

اقتصاديا، هنالك مهددان لأمريكا من مصيدة الوقود الأحفوري. أولهما أن تصبح استثمارات الطاقة الحالية بلا جدوى. فمهما كان حجم النفط الذي يستخرجه المنتجون الأمريكيون يمكن للمنتجين الخليجيين دائما إنتاج المزيد منه بتكاليف أقل. ومع تخلي العالم عن النفط ربما ستتناقص عائدات حقول النفط الصخري. المهدد الثاني أن تفشل أمريكا في اختيار النوع السليم من الاستثمارات الجديدة. فهي تتخلف كثيرا عن الصين في إنتاج السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح والبطاريات. هذه هي الأجزاء الضرورية لأنظمة الطاقة النظيفة. لقد أصبح العديد مصادر طاقة أرخص من الوقود الأحفوري خلال أعمارها الافتراضية. والميزة المتمثلة في تكلفتها ستتعزز.

قانون خفض التضخم

حاولت إدارة بايدن حل المشكلة بتخصيص أموال كثيرة. فالتشريع الذي يحمل بصمتها واسما مضللا هو «قانون خفض التضخم» يسخو بمخصصات ائتمان ضريبي ودعم مالي للشركات التي تصنع تقنيات الطاقة المتجددة وأيضا المستهلكين الذين يشترونها. وفقا لحسابات بنك جولدمان ساكس هذا الإنفاق قد يحفز على استثمارات تقارب 300 بليون دولار سنويا في الموارد المتجددة في أمريكا حتى عام 2032 وتضاعف الطاقة المستخرجة من الترسبات الصخرية.

في اعتقاد جيمس ستوك، الاقتصادي بجامعة هارفارد ومستشار الطاقة في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ثورة الطاقة المتجددة ملائمة جدا من الناحية النظرية لقدرة الشركات الأمريكية على الابتكار نظرا إلى التقنيات المتقدمة التي ترتكز عليها هذه الثورة من تخزين البطاريات وإلى توليد الكهرباء بالهيدروجين. لكن الموارد المتجددة في الولايات المتحدة حاليا أقل أهمية من صناعة النفط والغاز الصخريين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق