نزعة «ميركنتيلية» جديدة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إلى ما قبل الأزمة المالية العالمية (2008)، كان التجادل النظري في حقل الاقتصاد السياسي الرأسمالي، ما زال منصباً على المفاضلة بين الاقتصاديين النيوليبراليين الداعين لإبعاد الدول بصورة تامة عن قطاعات الأعمال، وقصر دورها على وضع القواعد والأنظمة، وترك الشركات تسبح بمفردها، لأنها هي المسؤولة عن عومها أو غرقها؛ وإن المستهلكين، وليس المنتجين، هم الملك الذي يحدد قواعد اللعبة. في الجهة الثانية من التجادل كان يقف أنصار الشراكات من أصحاب الشركات «Corporatists» أو التجاريين الجدد «Neo-mercantilists»، الذين ينظرون إلى التحالف بين الحكومة وقطاع الأعمال باعتباره أمراً بالغ الأهمية للأداء الاقتصادي الجيد وتحقيق الوئام الاجتماعي. وهو ما يستدعي حاجة الاقتصاد إلى دولة تستمع بجد إلى قطاعات الأعمال التجارية؛ وعند الضرورة، تعمل على تشحيم عجلات التجارة من خلال توفير الحوافز، وإعانات الدعم، وغير ذلك من الدافعية التحفيزية. ولأن الاستثمار وخلق فرص العمل يضمنان الرخاء الاقتصادي، فإن هدف السياسة الحكومية سيكون بالضرورة إسعاد المنتجين. ومن شأن القواعد الصارمة وإبعاد صناع السياسات عن نفوذ أصحاب الأعمال، خنق النزعات «الحيوانية» الجامحة لدى طبقة رجال الأعمال. كان هذا هو موقف الشريحة العظمى من المنظرين الاقتصاديين لأفضل الممارسات التجارية التي كانت سائدة في القرن السابع عشر على أيدي أنصار المذهب التجاري «Mercantilists» الذين يؤمنون بدور اقتصادي نشط للدولة في تعزيز الصادرات، وتثبيط واردات المنتجات النهائية «Finished products»، وإقامة احتكارات تجارية من شأنها إثراء الأعمال التجارية وسلطة الدولة الملكية على حد سواء.
كان المذهب التجاري شكلاً من أشكال القومية الاقتصادية الباغية تعظيم ازدهار وقوة الأمة من خلال الممارسات التجارية الحمائية التي تمثلت في زيادة الصادرات وتحويل عائداتها إلى ذهب وفضة للاكتناز، مقابل تقييد الواردات المستنزِفة لخزينة الدولة من الذهب والفضة. وقد كانت أعظم سنوات إسبانيا ازدهاراً عندما راكمت حصاد السبائك من ممتلكاتها في الخارج. كان ذلك إبان مرحلة الاستعمار الأوروبي لمختلف بقاع الأرض. حتى أن منظري المَلكيات الحاكمة في أوروبا في ذلك الوقت، لم يروا أية غضاضة في حض حكام أوروبا على استغلال البلدان التي استعمروها بكل السبل الممكنة. فالمستعمرات، بحسب أولئك، «موجودة لتحقيق المنفعة الاقتصادية للبلد الأم (الدولة الأوروبية الاستعمارية)، ولا فائدة من هذه المستعمرات ما لم تساعد في تحقيق الربح للبلد الأم». لذا يجب على الدولة «الأم» أن تستخرج المواد الخام من ممتلكاتها (أي مستعمراتها) وتبيع لهذه المستعمرات بضائع تامة الصنع، على أن تحتفظ الدولة الأوروبية المستعمِرة بالباقي. ويجب أن تكون هذه التجارة احتكارية للدولة المستعمِرة، بحيث لا يُسمح للأجانب بالتسلل إلى مستعمراتها.
هذا يعني أن الميركنتيلية ما كانت لتكون لولا توفر ضديها: الدول الأوروبية (الضد الأول) التي اخترعت مذهبها ليغطي «المجال» الوحيد القابل لتطبيقها، وهو الدول التي استعمرتها بلدان القارة العجوز في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي شكلت الضد الثاني في معادلة الميركنتيلية. إذ يصعب في الأحوال الطبيعية إصابة النجاح الذي حققته إبان سيادتها في المرحلة الاستعمارية. فليس متاحاً في عصر ما بعد الاستعمار إنشاء خط سير للمبادلات التجارية في اتجاه واحد: تعظيم التصدير وتحويل إيراداته إلى مخزونات ذهبية وفضية، وكتم الاستيراد من جهة ثانية. فقد قدم المذهب التجاري الأساس المنطقي الاقتصادي للاستعمار، في حين قدم الاستعمار المواد الخام والأسواق اللازمة لنجاح السياسات التجارية (الميركنتيلية). فاحتلت وأنشأت الدول الأوروبية مستعمراتها من أجل تأمين مصادر المواد الخام وإنشاء أسواق أسيرة لبضائعها المصنعة، ما سمح لها بمراكمة الثروة والسلطة، وتوسيع إمبراطورياتها.
لكن الآن ظهر ميركنتيليون جدد في الغرب يدعون إلى استدعاء الممارسات الميركنتيلية للقرن السابع عشر. وهي نزعات لا يمكن فصلها عن الاشتباك الجيوسياسي الساخن بين قطبي النظام الأحادي القطبية والنظام المتعدد القطبية. من علائم عودة النزعة التجارية الجديدة (الميركنتيلية الجديدة)، التحول المتسارع في الرأسماليات الغربية للاستعانة بالدولة، وتزايد نزعة الأحادية الوطنية المتمثلة في عمل الحكومات بمفردها، وفي كثير من الأحيان ضد بعضها البعض على حساب التعاون الدولي؛ وارتفاع حدة الاشتباك الجيوبوليتيكي الذي يلقي بظلاله القاتمة على أريحية الأسواق وفرص التعاون المتعدد الأطراف، ويتجسد خصوصاً في التنافس الشرس بين أمريكا والصين.
ليس صحيحاً ما يذهب إليه بعض الاقتصاديين في الغرب، بأن يابان خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكوريا الجنوبية (من ستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي)، والصين (منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي)، كانت تتبع النهج الميركنتيلي، بقدر ما كانت تتمتع بحكومات نشطة وداعمة للشركات، تدير شعوباً عالية الانضباط ومتمرسة في العمل المنتِج عالي الإنتاجية، فوظفت طاقاتها في الاستثمار الإنتاجي الذي أمّن فائضاً كان التصدير أحد قنوات تصريفه. ولم تكن هذه الدول تثبط الواردات بأدوات سياسية اقتصادية صارمة يمكن الاستدلال عليها، بقدر ما كانت طاقاتها الإنتاجية تفوق طاقاتها الاستهلاكية المحلية. فهذه الدول لم تشذ عن هذه القاعدة بسبب فائض طاقاتها التصديرية وعدم كتمها خط سير وارداتها من أي من أسواق العالم. فالنزعة التجارية الأحادية، في نهاية المطاف، وبحد ذاتها، لا تشكل ضمانة للنجاح. فالسعي وراء تحقيق الفوائض التجارية يؤدي حتماً إلى صراعات مع الشركاء التجاريين، فالسياسات التجارية الميركنتيلية في مكان ستقابلها سياسات مماثلة في أماكن أخرى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق