د. راسل قاسم*
أما ونحن نشهد هذه الأيام معرض الشارقة الدولي للكتاب، فلربما من المناسب أن نقرأ في اقتصاد الكلمة، ونمشي بين صفقات الحروف وأعمال المعرفة.
يمثّل سوق الكتاب والقراءة توازناً فريداً وحساساً بين الثقافة والاقتصاد، حيث تتمتع الكتب بقيمة مزدوجة، فهي أدوات لنقل المعرفة وبناء الثقافة، وفي الوقت ذاته منتجات تجارية تسعى لتحقيق الربح.
ومن هذا المنطلق، تواجه صناعة الكتب والقراءة تحديات وفرصاً متعددة، ما يدفع الحكومات والمكتبات والناشرين للعمل على تحقيق توازن يضمن استمرار هذه الصناعة كوسيلة مهمة للثقافة والتعليم.
وفقاً لمنظمة اليونسكو، يُعرَّف الكتاب بأنه «نشاط غير دوري مطبوع يتكون من 49 صفحة على الأقل، باستثناء الغلاف». وحسب تقرير توقعات سوق ناشري الكتب لعام 2024، وصل حجم سوق الكتب عالمياً إلى 92.97 مليار دولار في عام 2023.
ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 2.9% سنوياً ليصل إلى 107.33 مليار دولار بحلول عام 2028. هذا النمو يعكس تزايد الطلب على الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية، ليس فقط في الأسواق العالمية المشبعة، وإنما أيضاً في الأسواق الناشئة ودول المنطقة.
تلعب الحكومات من خلال مؤسساتها الثقافية دوراً مهماً في دعم صناعة الكتب من خلال توفير المكتبات العامة، وتقديم المنح للناشرين، وتنظيم سياسات تسعير الكتب. من بين هذه السياسات، اتفاقية تثبيت أسعار الكتب، والتي تهدف إلى حماية المكتبات الصغيرة والحفاظ على التنوع الثقافي، حيث تتيح هذه السياسة للناشرين تحديد سعر ثابت للكتاب، مما يمنع المنافسة السعرية التي قد تؤدي إلى تهميش الكتب ذات القيمة الثقافية لصالح الكتب التجارية الأكثر شعبية.
وقد أثبتت هذه السياسات فاعليتها في دول مثل فرنسا وألمانيا، حيث أسهمت في دعم المكتبات الصغيرة، وتوفير تنوع أكبر من الكتب للقارئ. ومع ذلك، تختلف الآراء حول فاعلية هذه السياسات، حيث يرى البعض أنها تحدّ من خيارات المستهلك، وتفرض أسعاراً أعلى. يبدو أن تثبيت الأسعار يحافظ على استقرار المكتبات وتوفر الكتب. فالأسواق الأوروبية غير المقيدة بالأسعار تشهد إغلاقاً أكبر للمكتبات المستقلة، ولكن اختلاف سياسات دعم الكتاب بين الدول يعقّد توحيدها دولياً أو إقليمياً.
من جانب آخر، تشهد صناعة الكتب تحولاً كبيراً بفضل التكنولوجيا، وأدى ذلك إلى ارتفاع شعبية الكتب الإلكترونية والصوتية، فهي توفر راحة للقراء، ولكنها تخفّض من مبيعات الكتب الورقية. استحوذت الكتب الإلكترونية على 15% من المبيعات في الولايات المتحدة، بينما ارتفعت مبيعات الكتب الصوتية بنسبة 22% في 2021، ما أدى لزيادة القرصنة الرقمية.
أما علاقة المؤلفين بالناشرين، فإنها تشهد تحولات جذرية مع ظهور منصات النشر الذاتي التي تسمح للمؤلفين بنشر أعمالهم مباشرة إلى القراء من دون المرور عبر الناشرين التقليديين. وبفضل هذه المنصات، يمكن للمؤلفين تجاوز الحواجز التقليدية، والوصول إلى جمهورهم مباشرة، مما ساهم في زيادة عدد المؤلفات المعروضة وتنوعها، فضلاً عن تقديم أصوات جديدة في مجال الكتابة والنشر.
تشير الإحصائيات إلى أن حوالي 30% من الكتب الجديدة في الولايات المتحدة تُنشر ذاتياً، وأن هذه النسبة تتزايد سنوياً، مما يفرض على الناشرين التقليديين تحديات جديدة في مجال استقطاب المؤلفين الموهوبين والحفاظ عليهم ضمن نظام النشر التقليدي.
وبينما يتيح النشر الذاتي فرصة أكبر للمؤلفين الجدد، فإنه يتطلب من الناشرين التقليديين تطوير استراتيجيات مبتكرة، لضمان تقديم محتوى عالي الجودة يتماشى مع توقعات القارئ. كما أن هذا التطور يفتح المجال للتنوع الثقافي وزيادة المنافسة بين دور النشر من حيث جودة المحتوى وأساليب التسويق.
من المتوقع في المستقبل القريب، أن يستمر تبني تقنيات الطباعة المستدامة، وتطوير النماذج الهجينة التي تجمع بين الطباعة التقليدية والنشر الرقمي. وتمثل أسواق الكتب الناشئة خصوصاً في المنطقة العربية ومناطق آسيا والمحيط الهادئ، فرصاً واعدة للنمو، بفضل ارتفاع معدلات التعليم ومستويات الدخل، ما يعزز إمكانيات انتشار القراءة في هذه المناطق.
لا يمكن أن نتغافل هنا عن تقنيات الذكاء الاصطناعي ودورها في تحليل تفضيلات القراء وتقديم توصيات مخصصة، مما يمكن الناشرين من الوصول إلى الجمهور المستهدف بفاعلية أكبر.
كما يمكن للذكاء التوليدي أن يُسهم في تسهيل عمليات البحث وصياغة المحتوى بطرق مبتكرة، حيث يساعد الكتّاب والمحررين على توليد أفكار جديدة، وإعادة صياغة النصوص بأسلوب جذاب، وتسريع عملية الكتابة بشكل عام. فتخصيص التجربة القرائية وزيادة كفاءة الإنتاج يعززان من تفاعل القراء مع المحتوى، ويزيدان من ولائهم للعلامات التجارية.
وإذ نختتم جولتنا القصيرة هذه بين الاقتصاد والثقافة، نرى تشابكاً بين أصالة الحرف وإبداع التقنية، وتوازناً بين متطلبات السوق وشغف المعرفة. ونرى أنه وعلى المدى المنظور، سيظل الكتاب أداة لنقل القيم، وتوسيع الآفاق، وربط الثقافات، وترجمة الفضول، وتعميق الفهم الإنساني.
* خبير إدراي
0 تعليق