اليابان نحو سياسة نقدية صارمة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كويتشي هامادا *

الشهر الماضي، عندما عدت إلى اليابان للمرة الأولى منذ تفشي فيروس كورونا، أذهلني مدى ارتفاع الأسعار الحاصل. ففي فبراير/شباط 2020، كانت تبلغ كلفة وجبة غداء بسيطة في وسط مدينة طوكيو نحو 1000 ين، أي قرابة 10 دولارات، أما اليوم، فكلفتها تضاعفت ل 2000 ين، أي 13.15 دولار. ويعكس هذا إلى حد ما التجربة نفسها في الولايات المتحدة، حيث تظل الأسعار أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة على الرغم من اعتدال التضخم. لكن الفارق أن اليابان شهدت انخفاضاً حاداً في قيمة العملة، وهو ما يصب في مصلحة الزوار الأجانب.
وتزامنت زيارتي مع انتخاب رئيس الوزراء الجديد شيجيرو إيشيبا، الذي لدي عليه بعض التحفظات حول ما إذا كان سيتابع السياسات الاقتصادية التي تحتاج إليها اليابان. ففي محادثة خاصة معه مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما كنت رئيساً لمعهد البحوث الاقتصادية والاجتماعية في مكتب مجلس الوزراء، لاحظت أن السياسة النقدية المفرطة في التقشف التي ينتهجها بنك اليابان المركزي تلحق الضرر بالصناعة اليابانية. ورد إيشيبا، الذي كان عضواً في البرلمان آنذاك، بأن «السياسة النقدية تقنية ومعقدة، وأن الحكومة ستستمر في اتباع آراء ونصائح خبراء بنك اليابان».
هذا الاحترام له ما يبرره. فبنك اليابان، ووزارة المالية، وغيرهما من الهيئات ذات الصلة، تستفيد من مجموعة قوية من المواهب، فضلاً عن المعرفة العميقة بكيفية وأسباب نجاح السياسات السابقة، النقدية منها والمالية، أو فشلها. ولذلك ينبغي أخذ نصيحتهم على محمل الجد باستمرار. والمشكلة هي أن التكنوقراط الحكوميين يميلون إلى تفضيل الأساليب السياسية المألوفة، حتى عندما لا تكون ما يحتاج إليه الاقتصاد في الواقع.
وعكست السياسة النقدية اليابانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هذا التحيز على وجه التحديد، حيث كان الازدهار الاقتصادي الذي شهدته البلاد يتغذى جزئياً على الين المقوّم بأقل من قيمته الحقيقية. ولكن بعد أن وقّعت اليابان، وبقية مجموعة الدول الخمس، على اتفاق بلازا عام 1985 لخفض قيمة الدولار الأمريكي نسبة إلى الين، والفرنك الفرنسي، والجنيه الإسترليني، والمارك الألماني، انتهت المعجزة الاقتصادية تلك بسرعة. ومع هذا، على مدى العقود الثلاثة التالية، ظلّ محافظو بنك اليابان المتعاقبون ملتزمين بالحفاظ على قوة الين، وبكل ما يترتب على ذلك من عواقب انكماشية.
لكن الحال تبدل مع تولي رئيس الوزراء شينزو آبي السلطة عام 2012. وبفضل الفهم السليم للاقتصاد، كان آبي يعرف أنه من الأفضل له أن يتبع مشورة محافظي البنوك المركزية دون نقاش. وفي الوقت نفسه، أدرك أهمية وضع الشخص المناسب على رأس المؤسسة المالية الكبرى في اليابان. وعلى هذا فقد اختار هاروهيكو كورودا، الذي التزم بملاحقة التوسع النقدي الذي كانت اليابان في أمس الحاجة إليه.
بالطبع، لا تحدد السياسة النقدية لبلد ما سعر صرفه بشكل مباشر. وما يهم هو المعروض النقدي مقارنة بنظيره في الدول الأخرى. ففي عام 2012، كانت اليابان تعيش في عالم يتسم بأسعار الفائدة المنخفضة. لذا، ومن أجل منع ارتفاع قيمة الين بشكل مفرط، وهو ما من شأنه أن يخنق الصناعة اليابانية، اضطر بنك اليابان إلى الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، بل وحتى سلبية. ومن خلال التيسير النقدي غير المسبوق، بدءاً من عام 2013، تمكن كورودا من ضمان بقاء تكاليف إنتاج السلع المتداولة منخفضة بالقدر الكافي للحفاظ على قدرة الصادرات اليابانية على المنافسة، ما أعطى دفعة كبيرة للاقتصاد.
ولكن منذ ذلك الحين تغيرت بيئة السياسة النقدية العالمية بشكل كبير. وقد حفز ارتفاع التضخم بعد الوباء البنوك المركزية الكبرى لرفع أسعار الفائدة بقوة، بدءاً من عام 2022. وعلى الرغم من انخفاض أسعار الفائدة، إلا أنها تظل مرتفعة نسبياً. كما حفّز الفارق في أسعار الفائدة بين اليابان وشركائها التجاريين الرئيسيين المستثمرين اليابانيين لنقل مدخراتهم إلى العملات الأجنبية، حيث حصلوا على أسعار فائدة أعلى، ما تسبب في انخفاض قيمة الين.
ومما لا شك فيه أن الاقتصاد الياباني يعاني عندما يكون الين قوياً للغاية، ولهذا السبب كنت أدعو في كثير من الأحيان إلى انتهاج سياسة نقدية أكثر توسعية. ولكن الانخفاض ليس جيداً دائماً أيضاً، مع بلوغ سعر صرف الدولار اليوم نحو 152 يناً. إذ يساهم الين المقوم بأقل من قيمته بالفعل في نقص العمالة في بعض القطاعات (مثل البناء)، ما يشجع السياحة المفرطة ويثني الطلاب اليابانيين عن الدراسة في الخارج. علاوة على ذلك، فهو يزيد من خطر حدوث طفرة تضخمية خطرة.
وفي هذا السياق، فإن سعر صرف الدولار بنحو 120 يناً سيكون أفضل بكثير. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على بنك اليابان أن يتبنى على الفور سياسة تقليدية لأسعار الفائدة القصيرة الأجل. وإذا ثبت أن هذا تقييدي للغاية، فيمكن لبنك اليابان العودة إلى ترتيبات سياسية أكثر مرونة. ومن حسن الحظ، ورغم أنني أشعر بالقلق من أن إيشيبا قد يثق كثيراً بآراء محافظي البنوك المركزية، فإنه يبدو الآن ميالاً نحو نهج السياسة النقدية الأكثر صرامة الذي تحتاج إليه اليابان.
* أستاذ فخري بجامعة ييل، والمستشار الاقتصادي الخاص لرئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي «جابان تايمز»

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق