* د. علي توفيق الصادق
تضمنت مجلة «التمويل والتنمية»، التي يصدرها صندوق النقد الدولي شهرياً، عدد شهر سبتمبر/أيلول 2024 مجموعة من الأبحاث تتعلق بالإنتاجية، منها: الإنتاجية والرخاء، والعمل من المنزل يعزز الإنتاجية والنمو الاقتصادي، القضاء على تباطؤ الإنتاجية، والذكاء الاصطناعي بشرى للاقتصاد العالمي، وتعزيز الإنتاجية، لا بد أن نغير طبيعة النمو، وصعود التضخم وهبوطه. يتضمن عدد سبتمبر المزيد من المواضيع ذات العلاقة بالإنتاجية.
وتأثير الذكاء الاصطناعي على النمو الاقتصادي متفائل.
ووفقاً لغولدمان ساكس، فإن تبني الذكاء الاصطناعي قد يعزز نمو الإنتاجية بنسبة 1.5 نقطة مئوية سنوياً على مدى فترة 10 سنوات ويرفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7 في المائة.
المتفائلون بالذكاء الاصطناعي يقولون دعه يحدث أولاً. والسؤال المثار، وبافتراض أن الهدف هو تحسين النتائج الاقتصادية بشكل مستدام لمزيد من الناس، أي رفع الإنتاجية، فما هي السياسات التي من شأنها أن تضع تطوير الذكاء الاصطناعي على المسار الصحيح، مع التركيز بشكل أكبر على تعزيز ما يمكن جميع العمال القيام به. وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإن نمو الإنتاجية لا يترجم تلقائياً إلى زيادة الطلب على العمال.
التعريف المعياري للإنتاجية هو «متوسط الناتج لكل عامل» أي الناتج المحلي الإجمالي مقسوماً على إجمالي العمالة. والأمل هو أنه مع نمو الناتج لكل عامل، سيزداد أيضاً استعداد الشركات لتوظيف الأشخاص. ولكن أصحاب العمل ليسوا مدفوعين لزيادة التوظيف بناء على متوسط الناتج لكل عامل، بل إن ما يهم الشركات هو الإنتاجية الهامشية أي المساهمة الإضافية التي يجلبها عامل واحد إضافي من خلال زيادة الإنتاج أو من خلال خدمة المزيد من العملاء. إن مفهوم الإنتاجية الهامشية يختلف عن الناتج أو الإيرادات لكل عامل، فقد يزيد الناتج لكل عامل بينما تظل الإنتاجية الهامشية ثابتة أو حتى تنخفض. إن العديد من التقنيات الجديدة، مثل الروبوتات الصناعية، تعمل على توسيع مجموعة المهام التي تؤديها الآلات والخوارزميات، ما يؤدي إلى إزاحة العمال. إن الأتمتة ترفع الإنتاجية المتوسطة، لكنها لا تزيد، بل قد تقلل، من الإنتاجية الهامشية للعمال. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أدت الأتمتة إلى زيادة الإنتاجية وتضاعف أرباح الشركات، لكنها لم تؤد إلى الرخاء المشترك في البلدان الصناعية. إن استبدال العمال بالآلات ليس السبيل الوحيد لتحسين الكفاءة الاقتصادية - فبدلاً من أتمتة العمل، تعمل بعض الابتكارات على تعزيز مقدار مساهمة الأفراد في الإنتاج. إن خلق مهام جديدة يشكل أهمية أكبر لرفع الإنتاجية الهامشية للعمال. فعندما تفتح الآلات الجديدة استخدامات جديدة للعمالة البشرية، فإن هذا يعمل على توسيع مساهمات العمال في الإنتاج ويزيد من إنتاجيتهم الهامشية. وكان هناك الكثير من الأتمتة في تصنيع السيارات خلال عملية إعادة تنظيم الصناعة الضخمة التي قادها هنري فورد بدءاً من عشرينات القرن العشرين.
وتمثل الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج مؤشراً اقتصادياً مهماً، وذلك لسببين. الأول هو أن التحسينات في المستويات المعيشية يجب أن تأتي من نمو هذه الإنتاجية على المدى الطويل. ويرجع ذلك إلى أن مستويات المعيشة تقاس على أساس دخل الفرد، وبالتالي، فإن الاقتصاد لا يمكنه رفعها بمجرد إضافة أعداد متزايدة من العاملين إلى القوة العاملة. وفي الوقت نفسه، جمع الاقتصاديون كثيراً من الأدلة على أن الاستثمارات في رأس المال تتمخض عن عوائد متناقصة. وبالتالي، يصبح التقدم في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج هو المصدر الوحيد الممكن لتحقيق نمو مستمر في دخل الفرد. كذلك يمثل نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج الحل لمن يقولون إن استمرار النمو الاقتصادي سيستنزف يوماً ما موارد كوكبنا الآيلة للنفاد. فعندما تتحسن الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج فهي تتيح لنا الحفاظ على مستويات المعيشة أو رفعها مع الحفاظ على الموارد، بما في ذلك الموارد الطبيعية.
والسبب الثاني لأهمية الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسبب الأول. فالفروق الواسعة في المستويات المعيشية مستمرة عبر البلدان. وبتحييد أثر الفروق في الأسعار الوطنية، قُدِّر متوسط دخل الفرد في جنوب السودان بأقل من 1% من المتوسط المقابل في الولايات المتحدة التي تعد من أغنى بلدان العالم. كما أن الفروق في ساعات عمل الأفراد أو قدرتهم على الوصول إلى رأس المال لا تفسر إلا نسبة ضئيلة من تلك التفاوتات في الدخل عبر البلدان. ولكن تفسِّر فروق الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج عبر البلدان معظم هذه التفاوتات. وحسب صندوق النقد الدولي، هذا ما يجعل الإنتاجية هماً رئيسياً يشغل صناع السياسات في كل مكان. فبالنسبة لصناع السياسات في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، تتمثل القضية الأساسية في كيفية سد فجوة الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج مقابل البلدان الأكثر ثراء. وبذلك فقط يكون بمقدورهم توفير وظائف أفضل ومستويات معيشية أعلى لمواطنيهم، لا سيما في اقتصادات إفريقيا التي يُنتظر أن تشهد نمو سكانياً قوياً في العقود القادمة.
وبالنسبة لصناع السياسات في الاقتصادات المتقدمة، يعني إذكاء نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج فتح آفاق جديدة أمام الإنتاجية. وهذا الأمر مطلوب لكي يصبح النمو مستداماً، في مواجهة كل من الشواغل البيئية والمجتمعات التي تتزايد فيها أعداد المسنين. ومع انكماش نسبة البالغين في سن العمل، التي لن تعوضها أعداد المهاجرين إلا بصورة جزئية، يصبح للإنتاجية دور حيوي تقوم به في الحفاظ على مستويات المعيشة.
* مستشار اقتصادي
0 تعليق