د. عبد العظيم حنفي
في الأول من كانون الثاني/ يناير 2002، بدأ مواطنو 12 دولة أوروبية في استخدام الأوراق النقدية والعملات المعدنية باليورو. أصبح المشروع الأكبر حقيقة ملموسة. توج هذا التحول الذي لا تشوبه شائبة مسعى تم تخيله في السبعينيات، وصمم في الثمانينيات، وتم التفاوض عليه في التسعينيات. وتحول إلى حقيقة، وكان مؤيدو اليورو يأملون أن يؤدي ذلك إلى التكامل الاقتصادي والمالي، وتقارب السياسات، والاندماج السياسي، والتأثير العالمي، لا سيما أن اليورو بدأ بكثير من الخصائص الضرورية للقبول الدولي. بما في ذلك قاعدة اقتصادية كبيرة واستقرار سياسي، ومعدل للتضخم منخفض يحسد عليه؛ كل ذلك تدعمه سلطة نقدية مشتركة، هي البنك المركزي الأوروبي، الذي يلتزم تماماً بالحفاظ على الثقة بقيمة العملة مستقبلاً. وطرح التساؤل لم لا تكون أوروبا نداً لأمريكا في مجال العملة أيضاً؟
يرى محللون أن هذا السؤال يغفل أن اليورو رغم كل ما يميزه من مواطن قوة تعوقه أيضاً عدة عيوب جسيمة. ومن بين هذه العيوب أن السياسة النقدية وسياسة المالية العامة في منطقة اليورو يشوبها في الأساس تحيز قوي مناوئ للنمو، ما يفاقم تأثير العوامل الأخرى التي تميل إلى إضعاف الناتج الممكن للاقتصاد الأوروبي. (مثال ذلك شيخوخة السكان، وجمود أسواق العمل، وصرامة القواعد التنظيمية الحكومية). ويصعب أن نتوقع من اقتصاد أوروبي متباطئ النشاط أن يجعل من اليورو عملة جذابة للتجارة أو الاستثمار. ومن ثم فلا غرابة في أن يكون التقبل الدولي لليورو ضعيفاً نسبياً؛ ففي نشاط الأسواق الخاصة وفي سياق التواؤم مع إلغاء المعاهدات البينية في منطقة اليورو، لم يستطع اليورو أن يحقق أكثر من الاحتفاظ بنصيبه مقارنة بأنصبة عدة عملات «موروثة» سابقة عليه. وفي نفس الوقت كانت هناك نبوءات أمريكية تنظر بتشاؤم إلى مستقبل اليورو معتبرة «أن خطأ القادة الأوروبيين الأكبر كان إنشاء العملة الموحدة في غياب وحدة سياسية» وأن «اليورو صرح عظيم أقيم على أسس ضعيفة، ولذا كانت الصدوع واضحة منذ البداية، لكن بعد الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في عام 2008، اتسعت تلك التصدعات وتحولت إلى شقوق في الجسم الأوروبي نفسه».
وقد تعرّض اليورو لمحنة نتيجة الظروف المالية والاقتصادية في عام 2011 وأوائل عام 2012. نتيجة أزمة الديون الأوروبية التي أدت إلى حدوث تقلص كبير في حجم التجارة العالمية، وإلى اضطراب في النمط الاستهلاكي العالمي، وتراجع في حجم التجارة والاستثمار بشكل عام. وسادت حالة من القلق نتيجة احتمال تدهور أزمة الديون الأوروبية، لأن جميع الاقتصادات المتطورة وحتى الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل سوف تتعرض لمخاطر ومتاعب اقتصادية عميقة، ويحاجج محللون اقتصاديون أنه «بسبب فوائض التجارة في دول مثل ألمانيا وهولندا، حدث تدفق تسونامي من الديون من فرانكفورت وهولندا وباريس إلى أثينا ودبلن ومدريد دون الاكتراث بخفض قيمة العملات المحلية، لاشتراك الجميع في اليورو».
ورأى اقتصاديون في ذلك الوقت «أن النهج العشوائي الذي تتبناه منطقة اليورو يشكل اختلالاً غير مستقر في التوازن. وإن لم تنتقل منطقة اليورو إلى توازن مختلف -قدر أعظم من التكامل الاقتصادي والمالي والسياسي، مع الاستعانة بسياسات قادرة على استعادة النمو والقدرة التنافسية، بما في ذلك إعادة الهيكلة المنظمة للديون، وإضعاف اليورو- فإن الحال سوف تنتهي بها إلى حالات امتناع غير منضبط عن سداد الديون، وأزمات مصرفية، وفي النهاية تفكك الاتحاد النقدي».
إزاء محنة اليورو، قام ماريو دراجي الذي كان قد تم تعيينه لإدارة البنك المركزي الأوروبي في عام 2011 بمهمة المنقذ لليورو. وكان الاعتقاد السائد وقتها أن دراجي لن يكون سوى واجهة في البنك المركزي الأوروبي، وأن القرارات الحقيقية تتخذها ألمانيا وحلفاؤها في الشمال، وثبت خطأ تلك التقديرات. في السادس والعشرين من يوليو 2012 ألقى دراجي خطابه «مهما كان الأمر»، الذي أصبح شعار البنك المركزي الأوروبي، «إن ذلك البنك على استعداد للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على اليورو». كانت «مهما كان الأمر» تلك الكلمات الثلاثة نقطة تحوّل لمنطقة اليورو، فقد اعتقد دراجي أن اقتصاد منطقة اليورو لا يزال لا يتلقى التحفيز الكافي، وجادل بنجاح لصالح البنك المركزي الأوروبي لدفع أحد أسعار الفائدة الرئيسية إلى المنطقة السلبية، وهو أول بنك مركزي رئيسي يفعل ذلك. لقد أعربت ألمانيا عن تحفظاتها، ولكنها لم تتمكن من منع دراجي من تحقيق مراده.
في عام 2017، ونتيجة لموجة من المعنويات المناهضة للعملة الأوروبية الموحدة في إيطاليا ودول أخرى بمنطقة اليورو أذكاها قرار بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي، هدد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي بأنه إذا كان هناك بلد سيغادر منظومة اليورو فإنه بحاجة إلى تسوية مطالبات بنكه المركزي أو التزاماته تجاه البنك المركزي الأوروبي بالكامل، ما قطع الطريق على معادي اليورو.
وإزاء تلك السمعة الدولية التي اكتسبها دراجي، قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بتكليف رئيس الوزراء الإيطالي السابق والرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي بوضع مقترحاته لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي. وبالفعل أطلق خطته الطموحة لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي في 9 سبتمبر 2024، في تقرير ضخم من 400 صفحة، تمركز حول «مستقبل القدرة التنافسية الأوروبية»، وقد لاقى تقريره صدى واسعاً. واعتُبر جرس إنذار لقادة الاتحاد الأوروبي الذين فشلوا منذ فترة طويلة في مواجهة معدل النمو المتراجع في أوروبا. وقال دراجي: «لأول مرة منذ الحرب الباردة، يجب أن نخشى حقاً على قدرتنا على الحفاظ على أنفسنا». ستحتاج رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى تحديد مقدار توصياته التي يجب متابعتها.
0 تعليق