كانت مكتبة الإسكندرية القديمة مؤسسة علمية فذة ومتكاملة، بلا مثيل فى العالم القديم، أسّسها البطالمة عام 288ق.م، وعاشت زهاء سبعمائة عام، إلى أن أفل نجمها عام 391م.
تأسست بناءً على اقتراح عرضه ديمتريوس الفاليرى على الملك بطليموس الأول سوتير (ومعناه المنقذ)، واستكمله ابنه الملك بطليموس الثانى فيلادلفوس (ومعناه المحب لأخته)، فوضع لها الأنظمة الإدارية والمالية. وتوالت أسماء العلماء والأدباء فى هذا الصرح العلمى، فقد وضع كاليماخوس القورينى أول نظام فهرسة فى التاريخ، من خلال السجل، فتأسّس علم المكتبات. كما كان أريستارخوس الساموسى أول من قال بمركزية الشمس.
ووضع إقليدس السكندرى قواعد علم الهندسة. ووضع هيبارخوس النيقى أسس علم حساب المثلثات. وأثبت إيراتوسثينيس القورينى كروية الأرض، وأسس علم الجغرافيا (جيوجرافيكوس). وأكد هيروفيلوس الخلقيدونى أن جسم الإنسان يديره المخ وليس القلب، وأسس علم التشريح. وأسس إيراسستراتوس القوصى علم وظائف الأعضاء.
وقسَّم مانيتون السمنودى تاريخ مصر القديمة إلى أسرات فى كتابه الشهير، كما تمّت الترجمة السبعينية للتوراة من العبرية إلى اليونانية كأول ترجمة من نوعها فى التاريخ. وأسّس أرشميدس علم الميكانيكا والاستاتيكا واخترع الطنبور. واخترع هيرون السكندرى الآلات الهيدروليكية. واخترع كتيسيبيوس ساعة الماء. وأصدر كلاوديوس بطليموس كتابه المرجعى فى الفلك «المِجَسْطىّ».
وبعد مئات الأعوام من الازدهار والإنتاج العلمى، بدأ الأفول تدريجيّاً: ففى عام 48ق.م امتدت نيران القيصر التى أشعل بها الأسطول البطلمى لتلتهم المكتبة الكبرى، لكن ظل الموسيون، مقر العلماء، بخير.
وفى عام 215م اجتاح الإمبراطور كاراكلا مدينة الإسكندرية لوأد تمرد حدث فيها؛ فاجتاح الموسيون، وألغى امتيازات علمائه وطرد الأجانب منهم. وفى عام 262م أطلق الإمبراطور جاليان حملة قمعية ضد حاكم مصر الذى أراد الاستقلال بها عن الحكم الرومانى. وفى عام 272م اجتاحت قوات الملكة زنوبيا؛ ملكة تدمر، مدينة الإسكندرية، ودارت الحروب بين قواتها والقوات الرومانية بقيادة الإمبراطور أورليان فى الحى الملكى؛ مقر الموسيون، فتم تدميره تماماً وفرار البقية الباقية من علمائه.
وفى عام 298م قامت ثورة مجدّداً ضد الحكم الرومانى، أعقبها تزايد المذابح ضد الأقباط بقيادة الإمبراطور دقلديانوس، فأصبح كل الحى الملكى أطلالاً. وأخيراً فى عام 391م أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس مرسوماً بتدمير المعابد الوثنية فى جميع أرجاء الإمبراطورية، متضمّناً السيرابيون الذى كان يحوى المكتبة الابنة (الصغرى) التى كان لها دور كبير فى العصر الرومانى. وهكذا، عندما بدأ القرن الخامس الميلادى، لم يكن هناك أى أثر فى مدينة الإسكندرية لمكتبتها العامرة.
ولم يكن أحد يعلم أنه بعد نحو 1600 عام، سيأتى من يدعو إلى إعادة إحيائها، ويعمل على ذلك بكل جد وإخلاص حتى يحقّق الحُلم.
تم الافتتاح الرسمى لمكتبة الإسكندرية يوم 16 أكتوبر 2002، بحضور السيد رئيس الجمهورية، والسيدة قرينته، ونخبة من الملوك والرؤساء والشخصيات العامة والمرموقة فى مصر والعالم.
وتقع مكتبة الإسكندرية الجديدة تحت ثلاث سُلطات: مجلس الرعاة ومجلس الأمناء، كل منهما، برئاسة السيد رئيس الجمهورية أو من يختاره، ومدير المكتبة، الذى له كل المسئوليات التنفيذية فى تصريف شئونها الإدارية والمالية.
يعمل بالمكتبة ما يزيد على ألفى موظف، فى المقر الرئيسى فى الإسكندرية، حيث المبنى الرئيسى على هيئة قرص الشمس المشرق، والقبة السماوية، ومركز المؤتمرات، وفى مقر الشلالات، وكذلك فى المقار التابعة لها فى كل من: محافظة الجيزة، فى القرية الذكية؛ حيث مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى، وفى محافظة القاهرة، حيث بيت السنارى فى حى السيدة زينب، وقصر الأميرة خديجة فى حلوان.
تضم المكتبة أربعة متاحف، وسبعة عشر معرضاً دائماً، والقبة السماوية، والبانوراما الحضارية. ولمكتبة الإسكندرية اتفاقات وشراكات مع كبرى المؤسسات الثقافية والأكاديمية على كل المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
تستضيف المكتبة ما يزيد على الخمسمائة حدث سنوياً. وتتنوع هذه الأحداث بين المؤتمرات العلمية والثقافية واللقاءات الفكرية والمنتديات الحوارية والحفلات الموسيقية والغنائية والمعارض الفنية وورش العمل والدورات التدريبية وغير ذلك. كما تصدر عشرات المطبوعات سنوياً، فى مختلف أفرع المعرفة. وهكذا، ومع مرور الأعوام، تُسطر مكتبة الإسكندرية حروفاً من نور العلم وبهاء المعرفة، وهى تتماهى مع الحاضر، وتستشرف وتبنى المستقبل.
0 تعليق