كتب- صابر سكر
الصلح في القتل العمد هل يمكن ان يتحول الي وسيلة لتسليع العدالة الجنائية عبر الاغراءات المالية والضغوط الإجتماعية بعد منح مشروع قانون الإجراءات الجنائية ورثة المجني عليه سلطة الصلح، نظرًا لما تمثله جريمة القتل العمد من اعتداء صارخ على الحق في الحياة، وهو الحق الأسمى الذي تحميه التشريعات والدساتير. ومع ذلك، تطرح بعض النظم القانونية تساؤلًا جوهريًا حول مدى إمكانية التصالح في قضايا القتل، خصوصًا إذا أصبح هذا القرار بيد ورثة المجني عليه.
هل يجوز أن تُترك سلطة إنهاء الدعوى الجنائية لأطرافها المباشرين؟
وما أثر ذلك على فلسفة العقاب والردع العام؟
هل يؤدي منح الورثة الحق في الصلح إلى تحقيق عدالة ناجزة أم أنه يفتح الباب أمام استغلال النفوذ والتلاعب بمسارات العدالة؟ كيف يمكن التوفيق بين مصلحة الأفراد في التصالح والمصلحة العامة في معاقبة الجناة وردعهم؟ وهل يؤدي إقرار هذا المبدأ إلى تقويض سلطة الدولة في إنفاذ القانون، أم أنه يعكس تحولًا نحو مقاربة تصالحية في العدالة الجنائية؟
في ظل هذه التساؤلات، يبرز مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي يمنح ورثة المجني عليه سلطة الصلح في قضايا القتل بوصفه نقلة نوعية في التعامل مع الجرائم الكبرى. هذا المشروع يستند إلى اعتبارات عدة، من بينها تعزيز دور الإرادة الفردية في إنهاء النزاعات الجنائية، وإعطاء الأولوية للمصالحة الاجتماعية، وتقليل الضغط على منظومة العدالة الجنائية.
غير أن هذا الطرح يثير إشكاليات معقدة تتعلق بطبيعة الجريمة وتأثيرها على المجتمع بأسره، فهل يقتصر القتل على كونه اعتداءً على فرد، أم أنه اعتداء على النظام القانوني ذاته؟ وإذا سُمح للورثة بالتصالح، فهل يظل العقاب قادرًا على تحقيق مقاصده في الردع والإصلاح؟
وما الضمانات التي تمنع تحول التصالح إلى وسيلة لتسليع العدالة الجنائية عبر الإغراءات المالية أو الضغوط الاجتماعية؟
مناقشة هذا المشروع تستوجب تحليلًا معمقًا لآثاره القانونية والاجتماعية والأخلاقية. فمن الناحية القانونية، قد يؤدي إقراره إلى تغيير جوهري في مفهوم الحق العام، حيث تتحول بعض الجرائم الخطيرة من قضايا تمس أمن المجتمع إلى مسائل تخضع لاعتبارات شخصية بين الجاني وورثة الضحية. وقد يترتب على ذلك إعادة النظر في دور النيابة العامة والقضاء، اللذين طالما كانا الضامنين الأساسيين لإنفاذ العقوبات وفقًا لقاعدة المصلحة العامة.
ومن ناحية أخرى، فإن منح الورثة سلطة الصلح قد يفتح الباب أمام تفاوت غير مبرر في العقوبات، حيث قد يحظى بعض الجناة بتسوية ودية بينما يواجه آخرون العقوبات المشددة، مما قد يضر بمبدأ المساواة أمام القانون.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن السماح بالتصالح في قضايا القتل قد يسهم في تعزيز الأعراف القبلية والجلسات العرفية التي طالما لعبت دورًا موازيًا للقضاء الرسمي في تسوية النزاعات. وهذا قد يكون مفيدًا في بعض الحالات، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى إضعاف ثقة المواطنين في النظام القضائي الرسمي، خاصة إذا بدا أن بعض الفئات يمكنها الإفلات من العقوبة عبر استخدام المال أو النفوذ.
كما أن التصالح قد يفاقم من النزاعات العائلية بدلًا من حلها، حيث قد يرفض بعض الورثة التنازل بينما يقبل آخرون، مما يؤدي إلى انقسامات داخل العائلة نفسها.
وهنا يبرز التساؤل عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه المسألة، حيث تقدم نموذجًا متوازنًا بين القصاص والعفو، مما يعكس فهمًا عميقًا لمقتضيات العدالة. فمن حيث الأصل، تقرر الشريعة أن القتل العمد جريمة تستوجب القصاص، مصداقًا لقوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" (المائدة: 45). ومع ذلك، تمنح ولي الدم حق العفو مقابل الدية أو بدونها، كما في قوله تعالى: "فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" (البقرة: 178). هذا العفو مشروط بأن يتم برضا أولياء الدم، مما يعكس مرونة الشريعة في تحقيق العدالة دون إغفال قيمة العفو كمبدأ أخلاقي.
لكن هذه المرونة لا تعني أن القتل يصبح مجرد مسألة تفاوض مالي، فالشريعة تضع قيودًا صارمة على الدية لمنع استغلال النفوذ أو إجبار أولياء الدم على القبول بالصلح تحت الضغوط. كما أنها تحتفظ للدولة بحق تنفيذ التعزير في حال كان القتل يمثل تهديدًا للمجتمع أو استباحة لدماء الأبرياء، حتى لو عفا أولياء الدم، وذلك تحقيقًا لمبدأ الردع العام.
وهنا يثور التساؤل: هل راعي مشروع القانون هذه الضوابط، أم أنه يفتح الباب أمام تسليع القصاص على نحو يهدد الاستقرار القانوني والاجتماعي؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب رؤية متكاملة توازن بين ضرورة تحقيق العدالة بمفهومها الشامل، وحماية المجتمع من مخاطر التساهل في الجرائم الخطيرة، وضمان عدم إساءة استخدام سلطة الصلح. وربما يكون الحل الأمثل هو إيجاد نموذج قانوني يجمع بين المرونة في منح الورثة دورًا في الصلح، وبين الإبقاء على سلطة الدولة في التدخل لضمان تحقيق العدالة وفقًا لمبادئ القانون العام. فهل يمكن أن يحقق مشروع القانون هذا التوازن؟
أم أن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة تهدد جوهر العدالة الجنائية؟
مشروع القانون الذي يمنح ورثة المجني عليه سلطة الصلح في قضايا القتل يمثل نقطة تحول كبرى في فلسفة العدالة الجنائية المصرية.
وبينما يبدو أن الهدف من هذا المشروع هو تعزيز مبدأ التصالح وتقليل النزاعات، فإن أثره قد يتجاوز هذه الأهداف ليؤثر على بنية النظام القانوني ذاته. فالتساؤل الجوهري الذي يظل قائمًا هو: هل يمكن تحقيق التوازن بين احترام إرادة الورثة في التصالح،
وبين ضمان عدم المساس بسيادة القانون ومبدأ الردع العام؟
إذا كان القانون الجنائي يقوم على حماية المصلحة العامة، فهل يمكن ترك قرار المعاقبة أو العفو بيد الأفراد، أم أن ذلك قد يقوض أحد أهم ركائز الدولة الحديثة في فرض النظام والعدالة؟ وإذا كانت القوانين تتطور لمواكبة التغيرات الاجتماعية، فهل هذا التطور يجب أن يشمل الجرائم الكبرى التي تمس الحق في الحياة، أم أن هناك حدودًا لا ينبغي تجاوزها؟
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل نقترب من رؤية جديدة للعدالة الجنائية قائمة على التصالح والتفاوض، أم أن هذه الخطوة قد تكون بداية لانزلاق خطير نحو إفراغ القانون الجنائي من محتواه الردعي؟ وبين هذه الجدليات، يظل المبدأ الثابت أن العدالة ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي قيمة جوهرية يجب أن تحافظ على توازن دقيق بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، فهل يحقق هذا المشروع ذلك؟
"حين تتحول العدالة من مبدأ أخلاقي راسخ إلى معادلة تفاوضية بين القاتل وورثة الضحية، يفقد القانون هيبته، ويصبح القصاص امتيازًا يُشترى لا حقًا يُقام. فالعدل ليس سلعة تُباع، بل هو التزام مجتمعي تُحفظ به الحياة وتصان به الكرامة.
0 تعليق