قبل سقوط دمشق، دلالات إعلامية شتى أنبأت أن الهيكل الخارجى للدولة السورية التى تحللتْ من الداخل منذ سنوات، أصبحتْ على وشك انهيار مدوٍّ أخير، إشارات بدءاً من قنوات إقليمية (تابعة لدول مناهضة للتأسلم السياسى)، وصفتْ فجأة الفصائل الإرهابية بـ«قوات المعارضة»، مروراً بذهاب الإرهابى «أبومحمد الجولانى» إلى الحلاق! وصولاً إلى محاولات أنسنته من خلال ظهوره المتلفز على نحو مختلف، وعودته إلى اسمه الأول (أحمد الشرع).
مع انتصاف القرن العشرين، كانت النزعة القومية التى نضجتْ فى نفوس شعوب المنطقة، هى النار التى اشتعلتْ فى المحتلين، وأجبرتهم على الجلاء عن بلادنا تباعاً.
ولأن الجيوش الكبرى بطبيعة تكوينها فى المنطقة العربية، هى الابن البكر للفكرة القومية، وحارسها الرئيس؛ لذا برزتْ -مع فوات السنوات، وتراكم الأحداث- خصماً بدرجات متفاوتة لثلاث قوى؛ المحتل السابق الذى لا يريد لنا أن ننهض تماماً فنتخلص من تبعيتنا له، والكيان الصهيونى الذى لا يريدنا من الأساس، وحركات التأسلم السياسى بطبيعة تكوينها المناقض للفكرة القومية لصالح أحلامها الدينية المريضة. ورُبما تُفسر هذه الرؤية كثيراً من التحالفات الغرائبية بين القوى الثلاث، ومحاولات التفافها على الجيوش العربية فى المنطقة، خاصة المتاخمة لتل أبيب.
والسؤال: ما الذى أغرى قدامى المستعمرين مسيحيى الديانة بالتحالف مع حركات التأسلم السياسى على نحو وصل إلى التبنى والرعاية؟! وما الذى دفع الكيان الصهيونى -عبر وسطاء- إلى دعم تلك الحركات وعلفها فى زرائب خلفية؟! والإجابة هى: ما تغرسه حركات التأسلم السياسى فى نفوس أتباعها من أفكار تستبيح محاربة جيش الوطن باسم الدين من أجل الوصول إلى الحكم باسم الرب!
إنهم يؤمنون بخيانة الوطن لوجه الله! مع الوضع فى الحُسبان أنهم لا يرون أوطانهم سوى تراب، ولا اعتبار عندهم للحدود التى هى فى نظرهم مجرد خطوط رسمها المحتل قبل خروجه! هذا الاستعداد الدينى للتفريط القومى داخل عقول المتأسلمين أدركه الخصوم، وأيقنوا أن هؤلاء المُغبرين بأوهام العصور الوسطى سيُشكلون السلاح الأكثر جاهزية -إن عاجلاً أو آجلاً- لإضعاف جيوش الشعوب التى سبق أن تمردتْ، وتحررت، واستقلتْ. هكذا عثر الأعداء على مندسين، يحاربون من أجلهم بالوكالة.
وكل هذا قد يُعطى إجابة عن السؤال الكوميدى الأسود، الذى طرحه البعض -ببراءة ساذجة- مع تفاقم الأوضاع فوق الأرض السورية: لماذا لم يُطلق «أبومحمد الجولانى» رصاصة فى حياته من أجل الجولان المحتل؟!
وليس الجولان فحسب، بل إن الإرهابى «أحمد الشرع»، الذى يتباهى به أتباع الحركات المتأسلمة هذه الأيام، كان جاراً لصيقاً بفلسطين التى تدمى منذ 14 شهراً، وما زالت تئن، ولم يحرك هو أو أىٌّ من العصابات السُّنية هناك ساكناً!
جميعنا يعرف أن الجولانى وأمثاله لن يقاتلوا الصهاينة؛ هم أرادوا القضاء على الجيش السورى الذى تآكل على مدى 14 سنة بفعل الحرب من الخارج، وفساد القيادة من الداخل، وها هو جيش عربى آخر ملاصق للكيان الصهيونى قد انصهر، من بعد ذوبان الجيش العراقى.
إن قضيتنا ليست فى «بشار»؛ إن همنا هو دمشق، من بعد أن ذهبتْ القدس، وبغداد، وطرابلس، وصنعاء، والخرطوم، وبيروت بلا عودة!
وفى النهاية، فإن ما يدور فوق أرض بلد بحجم سوريا من أجل محاصصتها بين المرتزقة والممولين والإرهابيين، له ما بعده، لكنَّ أحداً لا يعرف على وجه اليقين ماذا يوارى المستقبل القاتم لمنطقة منكوبة فى أفكارها.
كل الاحتمالات مطروحة، وكل السيناريوهات مفتوحة.
والثابت فقط عندى أن الإرهابى سيظل إرهابياً، ليس ثائراً، وليس معارضاً، وأن الحلاق الذى «قصقص» لحية الجولانى، رُبما زين سحنته، لكنه لم يؤنسنه؛ بل سيظل مجرماً، وفى الأغلب، بعد انقضاء دوره، سينتهى على يد مَن صنعوه، نهاية أمثاله؛ رُبما أشلاء فى أعقاب غارة دقيقة بقنبلة ذكية، ورُبما شيئاً من هذا القبيل.
كل ما يدور فى سوريا كان يُحاك مثله لنا، لولا لطف الله، ثم وطنية المؤسسة العسكرية، التى وقفتْ حجر عثرة فى مواجهة الجماعة الإرهابية وأذنابها منذ عام 2013 وما بعده حتى اللحظة، ليبقى ما يفرق غالبية المصريين عن إرهابيى التأسلم السياسى، ليس الاختلاف على السياسات، وليس الخلاف حول الرؤى؛ لكن ما يفرقنا عنهم هو الاختيار بين الوطن، أو اللاوطن. ما ينأى بنا عنهم هو.. الاختيار.
0 تعليق