أحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً عميقاً في صناعة المحتوى الرياضي، في وقتٍ لم يعد فيه الإعلام الرياضي مجرد وسيلة لنقل الأحداث، بل أصبح فضاء تفاعلياً معززاً بالخوارزميات التي تعيد تشكيل طريقة استهلاك الجمهور للأخبار والتحليلات، لتبرز مع هذا التحول آراء متباينة لخبراء الرياضة والإعلام حول مدى تأثير هذه التكنولوجيا على مستقبل الصحافة الرياضية، وما إذا كانت تضيف إلى التجربة الرياضية أو تفقدها جوهرها الإنساني.
وقد عَبَرَت ورشة العمل التي أقامها الاتحاد السعودي للإعلام الرياضي، وتشرفت بإلقائها مؤخراً أمام صفوة من خبراء الإعلام الرياضي في الأحساء، الأجواء والحدود الجغرافية التي تنتشر فيها الرسالة الإعلامية حاملة المعلومة للمتلقي، لأنها تحمل عنواناً عريضاً وهو: استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوي باستخدام صحافة الموبايل، بقيادة الصحفي عبدالله الغزال والأستاذ القدير بدر العبدالله، حيث لامست مخرجاتها المستقبل الذي ينتظر الصحافة الرياضية، وأهمية الذكاء الاصطناعي وممارساته في المهنة الإعلامية، لتكتمل معها معادلة «الصحفي والذكاء الاصطناعي في عالم اليوم».
يرى جوناثان ويلسون، وهو صحفي رياضي بريطاني، يكتب في عدد من المواقع والجرائد الشهيرة، منها: «ذي إندبندنت»، و«ديلي تلغراف»، و«سبورتس اليستريتد»، أن الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقاً جديدة لفهم التكتيكات الرياضية، حيث يسمح بتحليل كميات هائلة من البيانات بشكل فوري، ما يمكّن المحللين من رؤية أنماط لعب لم تكن واضحة من قبل، لكنه يشير إلى أن هذه الدقة الرياضية قد تؤدي إلى نوع من «الصرامة الرقمية»، التي تفقد اللعبة طابعها العشوائي والمفاجئ.. وهو ما يجعل كرة القدم على وجه الخصوص، رياضة غير قابلة للتوقع بشكل كامل.
أما سايمون كوبر، المتخصص في فلسفة الإعلام الرياضي، فيذهب إلى أبعد من ذلك.. معتبراً أن الذكاء الاصطناعي لا يعيد فقط تشكيل المحتوى، بل يعيد تعريف ماهية «الحقيقة الرياضية» نفسها، فالتقارير التي يتم إنتاجها عبر الخوارزميات تعتمد على معايير رقمية محددة، ما يجعلها تنتج سرداً «محايداً» من الناحية الحسابية، لكنه قد يكون خالياً من الإدراك العميق للسياقات الثقافية والإنسانية التي تشكل جوهر الرياضة.
فيما يعتبر أرسين فينغر، المدرب والمفكر الكروي، وهو الذي درب نادي أرسنال خلال الفترة من 1997 حتى 2018، نادي أرسنال الأبرز في مسيرته الرياضية، وأن الذكاء الاصطناعي قد يصبح امتداداً لقدرات المدربين، حيث يسمح لهم بفهم الأداء البدني والتكتيكي للاعبين بطرق أكثر دقة، لكنه في المقابل يؤكد أن الحدس البشري لا يزال لا يُستبدل، وكرة القدم كما يقول: ليست مجرد بيانات، إنها لعبة العاطفة واللحظة، يتخذ اللاعب معها قراراته بناء على مزيج معقد من الغريزة والخبرة والضغط النفسي، وهي عناصر لا يمكن لخوارزمية محاكاتها بالكامل.
أخبار ذات صلة
ومع هذه وتلك يحذر ديفيد كون، الناقد الرياضي المتخصص في الإعلام الرقمي، من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تعزيز التحيزات الإعلامية بدلاً من الحد منها، فالخوارزميات التي تختار الأخبار وتحدد أي المباريات تستحق التركيز عليها تعمل بناء على بيانات تاريخية، مما قد يؤدي إلى استنساخ أنماط التغطية الإعلامية السابقة بدلاً من تقديم منظور جديد، وهذا يثير تساؤلات جوهرية حول من يتحكم في السرد الرياضي، وهل يمكن أن تؤدي هذه الأدوات إلى انغلاق إعلامي؟! حيث يرى الجمهور فقط ما تتوقع الخوارزميات أنه يريد رؤيته.
بينما يرى الصحفي الإيطالي غابرييل ماركوتي أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة تحريرية قوية، حيث يخفف من العبء على الصحفيين من خلال أتمتة التقارير الإحصائية، مما يتيح لهم التركيز على التحليل العميق والقصص الإنسانية.. لكنه يلفت الانتباه إلى نقطة دقيقة، وقد يجعل الذكاء الاصطناعي المحتوى الرياضي أكثر سرعة وكفاءة، وقد يؤدي أيضاً إلى نمط من «الصحافة المؤتمتة»، يصبح معها المحتوى متشابهاً ومكرراً، مما يفقده الأصالة التي تميز الكتابة الرياضية الحقيقية.
ما يتفق عليه الخبراء هو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة جديدة، بل هو قوة تعيد تشكيل كيفية إنتاج المعرفة الرياضية واستهلاكها، وبينما يوفر إمكانيات هائلة لفهم وتحليل الرياضة، فإنه في الوقت ذاته يطرح تحديات فلسفية وأخلاقية تتعلق بكيفية ضمان بقاء الصحافة الرياضية وفيّة للإنسانية، وليس مجرد انعكاس رقمي لمعادلات إحصائية.
ويبقى التحدي الحقيقي، أنه لا يكمن في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في كيفية استخدامه بطريقة تحافظ على توازن دقيق بين الدقة الرقمية والثراء العاطفي، بين السرعة الخوارزمية والتأمل البشري، وبين قوة البيانات وحكمة الإدراك.
0 تعليق