استيقط الإسرائيليون على صوت صافرات الإنذار، تدوي في وسط إسرائيل، محذرة من صاروخ باليستي، وصل سماء المدينة، بعد أن قطع ألفين وأربعين كيلو مترًا، قادمًا من اليمن، في إحدى عشرة دقيقة ونصف الدقيقة، وفشلت الدفاعات الجوية، التي أطلقت أكثر من عشرين صاروخًا من منظومتي (حيتس) و(مقلاع داود)، في إسقاطه، علمًا بأن هاتين المنظومتين مخصصتان للتصدي للصواريخ بعيدة المدى.. ومع أن إطلاق الصاروخ الباليستي من اليمن إلى إسرائيل كان متوقعًا، حتى أن وزير خارجية الحوثيين أصدر تحذيرًا مبكرًا قبل يوم واحد.. لكن هذه المرة فشلت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وانفجر الصاروخ في الهواء وسقطت شظاياه في منطقة مفتوحة على بعد بضعة كيلو مترات فقط من مطار بن جوريون الدولي.. وهو ما قد يشير إلى عيوب في أنظمة الدفاع الإسرائيلية ويثير المخاوف في تل أبيب، خصوصًا وأن هذه هي المرة الثانية التي ينجح فيها الحوثيون في اختراق دفاعات إسرائيل، إذ في يوليوالماضي، أطلقت الجماعة طائرة بدون طيار ضربت مبنى في تل أبيب، بعد أن حلقت شمالًا حتى السواحل الشمالية، ثم تحولت شرقًا فوق البحر الأبيض المتوسط نحو ساحل إسرائيل.. وهذه المرة، سافر الصاروخ من الجنوب إلى الشرق، متجهًا على ما يبدو نحو المطار، الذي من المرجح أنه كان ضمن المدى الأقصى للصاروخ، مما قد يعرض فعاليته للخطر.
الصاروخ، الذي قال عنه، زعيم جماعة الحوثي، عبد الملك الحوثي، إنه (يأتي في إطار المرحلة الخامسة من التصعيد ضد العدو الإسرائيلي ونصرة للشعب الفلسطيني، والقادم أعظم.. وتواصل قواتنا عملياتها في البحار ضد السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي والأمريكي والبريطاني)، وأشادت به حركة حماس، مؤكدة أن العدو الصهيوني لن يحظى بالأمن، ما لم يتوقف عدوانه الوحشي على شعبنا في قطاع غزة، ودفع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى تهديد جماعة الحوثي بدفع الثمن على أي محاولة للمس بإسرائيل، مُذكًرًا باستهداف مواقع تابعة لها في اليمن، وخصوصًا ميناء الحديدة، الذي تعرض لضربة إسرائيلية عنيفة، في أعقاب هجوم الحوثي بمسيّرة على تل أبيب.. هذا الصاروخ، طرح عدة أسئلة، وأثار الخلاف بين نتنياهو ويوآف جالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، ودفع بعلامات الاستفهام حول إمكانية بدء إسرائيل حربًا في لبنان.
السؤال الأول: هل يمتلك الحوثيون مثل هذا النوع من الصواريخ؟.. والإجابة، لا يمتلك الحوثيون صناعة صواريخ بالستية خاصة بهم، بل يأتي مخزونهم بالكامل من إيران.. حسب صحيفة (جيروزالم بوست)، فإن الصاروخ الذي أطلق على إسرائيل يعرف في اليمن باسم (طوفان)، وهو في الأساس صاروخ (قادر) الإيراني، الذي يعد تطويرًا لصاروخ (شهاب 3).. يبلغ مداه حوالي ألفي كيلو متر، وهو ما يكفي لتغطية المسافة من اليمن إلى إسرائيل.. يُنقل الصاروخ من موقع تخزينه بالشاحنات إلى موقع الإطلاق، حيث يتم تجميعه.. ويتم تحديد هدف الصاروخ مسبقًا، ولا يمكن تغيير مساره أو تصحيحه أثناء الطيران.. وعلى النقيض من (شهاب)، تستغرق الاستعدادات لإطلاقه، التي تتمثل بشكل أساسي في ملء مقدمته بالوقود، حوالي نصف ساعة فقط، بدلًا من عدة ساعات.. يتم إطلاق الصاروخ رأسيًا ثم يتبع مسارًا بالستيًا، أي أنه يتحرك في قوس أو نصف دائرة، ليطير عبر الغلاف الجوي مع استمرار تشغيل محركه، مما يدفعه إلى الأمام، من شمال اليمن وصولًا إلى وسط إسرائيل، فيما بين 12 إلى 15 دقيقة فقط.. ويقدر وزنه قبل الإطلاق بنحو سبعة عشر طنًا، لكن الرأس الحربي نفسه يزن حوالي ستمائة وخمسين كيلو جرامًا، وهي شحنة متفجرة كبيرة، يمكن أن تتسبب في أضرار جسيمة وسريعة للمدنيين وكذلك للمنشآت العسكرية قليلة الحماية.
السؤال الثاني: لماذا لم يتم رصد الصاروخ، منذ لحظة الإطلاق، أو في المسافة بين اليمن وإسرائيل، من رادارات السفن الأمريكية والإسرائيلية في البحر الأحمر؟.. والإجابة السريعة، هي أنه هناك عدة مراحل لرصد مثل هذا الصاروخ، يبدو أنها تعطلت!!.. فعندما يُنصب الصاروخ للإطلاق في اليمن، يكون في منطقة مفتوحة ومرئية للأقمار الاصطناعية الاستطلاعية الإسرائيلية والأمريكية، التي من المفترض أن تراقب مواقع الإطلاق المحتملة، إلا إذا كان الإطلاق هذه المرة من بين جبال حجبت الرؤية، في منطقة جديدة، لم تعتدها أجهزة الرصد الأمريكية ـ الإسرائيلية.. عند إطلاق الصاروخ، يتم رصد الحرارة الشديدة التي يولدها محركه، بواسطة شبكة الأقمار الاصطناعية الأمريكية للإنذار من الصواريخ، ومن المفترض أن تنقل المعلومات إلى الجيش الإسرائيلي.. وعلى مدى خمسة وعشرين عامًا، تم تطوير نظام (السهم) الدفاعي الإسرائيلي، ليكون قادرًا على اعتراض هذا النوع من الصواريخ.. ومن المفترض أن تقوم عدة أنظمة رادار برصد وتتبع الصاروخ، عندما يكون في مساره نحو إسرائيل.. تشمل هذه الأنظمة، الرادار التابع للبحرية الأمريكية والإسرائيلية في البحر الأحمر، والرادار بعيد المدى (X) في النقب الذي تديره القوات الأمريكية، وأخيرًا رادار نظام (السهم).. ولا يزال من غير الواضح، ما إذا كان تم رصد الصاروخ في الوقت المناسب، ولماذا لم يتم اعتراضه بواسطة نظام (السهم) كما كان مخططا له؟.
التهديدات المتجددة من اليمن تأتي في وقت تتصاعد فيه التوترات على جبهات أخرى.. ففي حين يستمر القتال في غزة، تتصاعد الاشتباكات العسكرية على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية.. وقد أدى الوضع في شمال إسرائيل إلى دعوات للحكومة لاتخاذ إجراءات أكثر عدوانية ضد حزب الله؛ حتى أن البعض يحثون على شن حرب شاملة.. وإذا حكمنا من خلال التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فإنه ليس في عجلة من أمره لتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار مع حماس في أي وقت قريب، على الرغم من الجماهير التي تتجمع في الشوارع.. في هذه المرحلة، وفقًا للحكومة الأمريكية، فإن العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق هي زعيم حماس، يحيى السنوار، الذي اتخذ مؤخرًا موقفًا أكثر صرامة في المفاوضات.. لكن نتنياهو لديه الوقت أيضًا، وقد أهدر الفرص عن عمد خلال الأشهر الطويلة من المفاوضات.. في غضون ذلك، تركز المشاورات السياسية والعسكرية رفيعة المستوى، على ما ينبغي لإسرائيل أن تفعله في المرحلة التالية.. ويشجع نتنياهو المؤسسة العسكرية على اتخاذ خطوات أوسع وأكثر عنفًا في لبنان وبعض أجزاء غزة، حيث تتركز العمليات الآن على محوري نتساريم وفيلادلفي، وعلى المحيط، وهو شريط بعرض كيلو متر واحد في عمق الأراضي خلف السياج الحدودي.. ولكن من غير الواضح ما إذا كان نتنياهو يسعى إلى مواجهة واسعة النطاق، أو يعتقد أن الضربات ضد حزب الله يمكن تكثيفها والحفاظ على فعاليتها، دون إشعال حرب إقليمية.
نأتي إلى الخلاف بين نتنياهو ويوآف جالانت، إذ كشفت صحيفة (تايمز أوف إسرائيل) أن نتنياهو هدد مجددًا بطرد وزير الدفاع جالانت، بسبب معارضته لشن هجومًا موسعًا على لبنان، إذ يرى جالانت أن الوقت غير مناسب لمثل هذا الهجوم، ويريد إعطاء فرصة لحل دبلوماسي في الشمال، واتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، في حين يضغط قائد القيادة الشمالية، أوري جوردين، لشن هجوم واسع في لبنان، فيما يبدو جالانت ورئيس أركان الجيش، هرتسي هاليفي، أكثر تحفظًا.. وقد هاجم جالانت نتنياهو، خلال اجتماع مغلق للجنة الخارجية والأمن البرلمانية في مكتبه بتل أبيب، وذكر موقع (أكسيوس) الأمريكي، أن هناك مواجهة غير مسبوقة بين نتنياهو وجالانت، تكشف الخلاف السياسي المستمر والمتزايد والعداء الشخصي بينهما.
■■ وبعد..
عند محاولة التنبؤ باحتمال اندلاع حرب في لبنان، لابد من أخذ عاملين حساسين للوقت في الاعتبار.. الأول هو الخطاب الذي من المقرر أن يلقيه نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في وقت لاحق من هذا الشهر.. والثاني هو الطقس، وبشكل أكثر تحديدًا، الشتاء القادم، إذ أن الظروف الجوية الصعبة تخدم دائمًا حركات المقاومة، التي تطلق الصواريخ من الملاجئ، وتعيق دائمًا قدرات القوات الجوية الإسرائيلية، مهما كانت متقدمة تكنولوجيًا.. وبالنسبة لإسرائيل، فإن الفرصة المتاحة لشن حرب واسعة النطاق في الشمال ليست محدودة، ما لم يقرر حزب الله متى تبدأ هذه الحرب.. وفي مستهل اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي، قال نتنياهو إنه (يسمع صرخات) سكان الشمال.. وتعهد بأن (الوضع الحالي لن يستمر.. وهذا يستلزم تغيير ميزان القوى على حدودنا الشمالية.. سنفعل كل ما هو ضروري لإعادة سكاننا إلى منازلهم بسلام.. وأنا ملتزم بذلك).. فهل عقلها نتنياهو، أم أنه، وكما هو الحال في غزة، تتجه إسرائيل نحو الحرب مع حزب الله، دون استراتيجية أو أهداف واضحة؟.. لذلك مفال آخر.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.