شعب الله المظلوم.. فلسطينيون يروون مشاهد «سنة أولى دمار»: «7 أكتوبر أتت بالنكبة» - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة حذف

- أكثر من 10 آلاف مفقود عانوا تحت الأنقاض لساعات حتى استشهدوا

- انتشار «الكساح» بين الأطفال والقمامة تغطى جميع الطرقات

- نقل المصابين على عربات تجرها الحيوانات

- أبسط مقومات الحياة غائبة.. وسعر كيلو الطماطم وصل إلى ١٠٠ دولار

أصبح الموت رفيق رحلتهم، يبتكر العديد من الوسائل ليقتلعهم من أرضهم، هربوا من غزة، فطاردهم فى كل مكان، وأخذ كل ما تبقى لهم، استمروا فى الهروب فحاصرتهم الدبابات، وسحقت العديد من الأبرياء، ففروا من نزوح إلى نزوح.

نظروا إلى أضواء الآليات العسكرية القادمة من خلفهم، وإلى المقابر التى انتشرت بينهم، وزادهم رعبًا صراخ وبكاء أهل الموتى، صباحًا ومساءً، فبهتت ملامحهم، وذاقوا ألوانًا من العذاب الذى لا يُوصف، وسط الحرب والقذائف المسعورة والموت الذى يطاردهم ليل نهار، وحياتهم التى تحولت إلى جحيم لن ينسوه ما حيوا، ليوجهوا رسالة إلى العالم أجمع، بعد قرابة ٣٦٥ يومًا من العذاب والجحيم المستمرين: أيُعقل أن الله خلقنا لنموت؟!

«الدستور» تنقل فى السطور التالية شهادات حية من واقع حياة الفلسطينيين من أهالى غزة والضفة الغربية، هناك حيث لا صوت يعلو على مشاهد الموت والدمار الذى يتعرضون له يوميًا، تحت مسمع ومرأى المجتمع الدولى، الذى اكتفى بمقاعد المتفرجين، وانتصر للجلاد على الضحية، وللمغتصب على صاحب الأرض.

 

أحمد الأغا:  نازحٌ منذ اليوم الأول.. الخيام «أفران ملتهبة».. والأمراض تقتلنا دون علاج

أحمد الأغا، صحفى وباحث وأكاديمى فى مجال الإعلام من مدينة خان يونس، روى تفاصيل معاناة شعب بأكمله، والتى بدأت مع فجر يوم ٧ أكتوبر الماضى، قائلًا: «أنا نازحٌ فى منطقة المواصى حاليًا، بحكم أن قطاع التعليم قد دُمر أكثر من ٩٠٪ منه، بما فيه الجامعة التى كنت أعمل بها، بشكل كامل».

وأضاف «الأغا»: «منذ اليوم الأول للحرب لم يمهلنى الاحتلال أن أبيت ليلتى فى بيتى، فقد نزحت منذ الساعات الأولى، لأن القصف اشتد بجانب منزلى، ثم انتقلت إلى مركز المدينة، كونها أقل تعرضًا للعدوان، وربما تكون أكثر أمنًا، لكن فى هذه الحرب كل المعايير مختلفة، لأن القصف طال كل مكان، لتتغير حياتى ككل أهل غزة، ونخرج كلنا من بيوتنا، والتى نعتبرها وطنًا صغيرًا لنا ومكانًا للاستقرار».

وواصل: «تخيل أى شخص فينا إذا غيّر مكان نومه لا ينام، فما بالك بأن تترك بيتك قسرًا؟ وبدلًا من أن أكون فى الصباح ألقى محاضراتى وبين طلابى باتت حياتى طيلة اليوم محاولة لتلبية متطلبات الأسرة، من مياه عذبة وطعام ودواء، فالحياة حرفيًا انقلبت رأسًا على عقب، وأصبحت جحيمًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى».

وأكمل: «حتى المؤتمرات العلمية والأوراق البحثية التى كنت أشارك بها لم أستطع أن أصل إليها، فى ظل مرور أكثر من ١٠ أشهر دون إنترنت أو أى اتصال بالعالم الخارجى، وحتى الأصدقاء هنا لا أعرف ماذا حلّ بهم، ويوميًا أسمع عمن استشهد أو أصيب منهم، سواءً من الأصدقاء أو الأقارب أو الطلبة».

وقال الأكاديمى الفلسطينى إنه بالنسبة لإسعاف المصابين، لا معبر منذ ٦ مايو لإجلاء الجرحى وعلاجهم بالخارج، فى ظل انهيار المنظومة الصحية المتهالكة منذ ١٨ عامًا من عُمر الحصار الإسرائيلى، حتى إن أكثر من ١٠ مصابين أصبحوا يُحملون فى مركبة إسعاف واحدة، رغم أنهم مصابون وبحاجة لأدق رعاية، إلا أنهم يُحملون على عربات تجرها الحيوانات، فى طرق وعرة ومهترئة».

وأضاف: «أكثر من ١٠ آلاف مفقود استشهدوا تحت أنقاض منازلهم، منهم من جلس ينزف لساعات أو ربما لأيام وهو لا يستطيع تحريك جسده، فالواقع مؤلم، تبحث فيه عن أدوية بأبسط أنواعها فلا تجدها، ونحن لا نتحدث عن أدوية لأمراض مزمنة أو خلافه، بل نبحث حتى عن أدوية للبرد والسعال والأمراض الجلدية، وعلاجات للأطفال فلا نجدها».

وواصل: «هناك انتشار للأمراض الجلدية بسبب الحر فى الخيام، التى تعد أفرانًا ملتهبة، جعلت من انتشار الأمراض الجلدية والطفح والاحمرار والحبوب أمرًا منتشرًا بشكل كبير، ولأنى أقمت لفترة بجانب نقطة طبية فقد رأيت أن اليوم المخصص لطبيب الأمراض الجلدية تكون فيه طوابير لا تنتهى من المرضى، والمشكلة هى أنه يشخص المرض دون أن يوجد علاج متوفر له».

وعن الغذاء، قال «الأغا»: «كل يوم بحال، وهو على أغلب التقدير معلبات، وإن توفرت فلا يستطيع أغلب الناس أن يشتروها»، مضيفًا: «نحن نتحدث عن أشهر من الإبادة، حيث لا عمل ولا وظائف، والناس لم يبق لديها شىء لتخسره، فقد كانوا يأملون فى كل فرصة لإبرام صفقة تبادل لإنهاء كل هذه المعاناة، لكن مع تسويف الاحتلال والمماطلة فقد الناس الأمل».

«قصص الحرب عبارة عن سلسلة من الدماء التى تنزف دون توقف»، هكذا وصف «الأغا» المعاناة التى يراها يوميًا، مضيفًا: «كانت هناك طالبة تدرس لدىّ، كانت من أكثر الطالبات خلقًا، استشهدت ولم أكن أعرف، أيضًا هناك طالبة أخرى أرسلت لى رسائل عدة، ثم توقفت ظنًا منها أننى قد استشهدت، لأننى عندما نزحت مكثت فترة دون اتصالات ولا إنترنت، وهى مسكينة كل أهلها استشهدوا ولم يبق لها أحد من عائلتها، سوى أخيها الصغير». 

وواصل: «شهدت قصة أثرت فى نفسى، ففى أول الحرب استشهد ابن عمى، ولديه زوجة وأولاد، وخلال التهدئة التى استمرت لأسبوع تقريبًا رجعنا إلى بيتنا، الذى احترق بعدها بعدة أشهر، لكنى صُدمت عندما شاهدت زوجته تغسل ملابسه وتنشرها وهى تدرك تمامًا أنه لن يعود أبدًا، لكنها من شدة تأثرها كانت تحب أن تكون ملابسه نظيفة مثلما كان يريد هو، وبعد ٧ أيام خرجنا من المنطقة بعد أن تدمر منزلهم واحترق منزلنا، وتشردنا مجددًا لأشهر طويلة، ومازالت الحرب قائمة حتى الآن».

شافى حمد: منزلى تدمر ونزحت 7 مرات.. وأكلنا الأعلاف وأوراق الشجر

شافى حمد محمد، محامٍ من سكان شمال القطاع، قال لـ«الدستور»: «كان لدىّ مكتب تم قصفه، والحرب لم تفرق بين طفل وشيخ، بل أصابت الجميع، الأطفال والشيوخ والمنازل والأشجار، ففى قطاع غزة لا يوجد أى نوع من الحياة غير المأساة الإنسانية، فنحن نفتقد القدرة على الحياة بشكل كامل».

وأكد «شافى» أن حياته تغيرت إلى الأسوأ، ولم يكن يتوقع أن حياته ستصل يومًا لهذه المرحلة، بعد أن كان يذهب إلى عمله وحياته مستقرة، ثم فجأة انقلبت رأسًا على عقب، مضيفًا: «أصبحنا غير قادرين على تلبية احتياجاتنا، ولا نملك أى شىء». وواصل: «نزحت ٧ مرات، فى مدارس الإيواء وفى عدة أماكن بين الخيام والشوارع والأزقة، وعشت مع الجثث والأشلاء، ولكنى عدت الآن إلى الشمال، وللأسف تدمر منزلى، ونعانى بشكل كبير من نقص مياه الشرب وانقطاع الكهرباء، ويعانى أطفالى الثلاثة من سوء تغذية حاد، حتى إننا نقلناهم إلى المستشفيات، بالإضافة إلى انتشار الأمراض الجلدية».

وأكمل: «منذ بداية العدوان على القطاع، انقطعت إمدادات الخضروات، حتى إننا لا نستطيع الحصول عليها، فكيلو الطماطم الواحد وصل سعره إلى ١٠٠ دولار، واللحوم تباع إن وجدت بأسعار خيالية، فقد أصبحنا معزولين، نُحارب من الاحتلال والضغط النفسى، كما نعانى من انتشار القمامة وتفشى الأمراض، فضلًا عن انتشار الكساح بين الأطفال، الذين يفزعون كل دقيقة من صوت القصف والصواريخ، لكننا نربيهم على أننا لو متنا فسوف نموت من أجل القضية». وتابع: «أكلنا فى محنتنا أعلاف الحيوانات والشجر، وقبل ٥ أشهر كنا نعيش مجاعة قوية، وحتى هذه اللحظة نعانى من نقص مقومات الحياة، ومنذ بداية الحرب لم تدخل الفاكهة بجميع أنواعها منزلى، والليل أصبح صعبًا، فالناموس والجراد والذباب تنتشر على النفايات الملقاة فى الشوارع، وتوافر جميع متطلبات الحياة الإنسانية فى شمال القطاع تحت الصفر». وعن معاناة زوجته بالتحديد، قال «شافى»: «تعانى زوجتى من مشكلة فى النخاع الشوكى، ولا نستطيع أن نحصل على الدواء لها، وللطعام لا يوجد غاز بل نعتمد على الحطب رغم ارتفاع سعره، فأنا أشعل النار فى منتصف المنزل رغم استهدافه، ورغم أنه أصبح لا يصلح للاستخدام، وللأسف نحن مقبلون ثانية على الشتاء، وسوف نعانى فيه معاناة شاقة». وأضاف: «رفضت الخروج رغم الضرب، وعندما يطلبون منا الإخلاء نذهب إلى أماكن تبعد مسافة ١٠ كيلو مترات عن صوت القصف، وقد رفضنا النزوح لجنوب القطاع، لأن هذه أرض الأجداد والآباء ولن أتركها».

حذيفة سرور:  الضفة تحولت إلى سجن كبير.. والاعتداءات لا تتوقف

من غزة إلى الضفة الغربية لا ينتهى نزيف معاناة الفلسطينيين، وفق حذيفة سرور، صحفى فلسطينى من رام الله فى الضفة الغربية، الذى تحدث عن التحديات التى يواجهها يوميًا فى عمله.

وقال «سرور»: «منذ ٧ أكتوبر الماضى، انكشف الوجه الحقيقى للاحتلال، وسقطت الأقنعة وبدأوا يتعاملون على حقيقتهم، فالقتل لديهم سهل والاقتحامات يومية ولا تنتهى، والاعتداءات على كرامة الفلسطينيين لا تتوقف».

وأضاف: «قبل ٧ أكتوبر، كنا نصور بتصاريحنا، ولكن الآن حتى لو لديك تصريح وبطاقة هوية يصادرون الكاميرات، وحدثت اعتقالات كثيرة للصحفيين والمصورين، وفى أثناء اجتياح جنين، كان مصور من زملائى ذاهبًا للتغطية، ومعه مصور آخر واثنان من الصحفيين، لكن القناص ضربهم بـ٦ رصاصات، وجميعهم أصيبوا وهربوا من السيارة بمعجزة».

وواصل: «الاحتلال لا يفرق بين كبير وصغير، ولا طفل ولا امرأة فى القتل. قبل ٧ أكتوبر، إذا جاء إخطار بإخلاء المنازل، كنا نحتج ونخرج فى مظاهرات، ونكتب مذكرات اعتراض، لكن الآن لا يمكننا ذلك».

وأكمل: «الضفة الغربية كلها مستوطنات، وهناك يستولى المستوطنون على الأراضى، ويجعلوننا نعيش فى قهر دائم، وفى البلد الذى أقيم به، اعتقلوا مُدرسة أطفال لأنها نعت شهيدًا لديه ٣ أولاد عمومة، كلهم بالسجن، وكل ما تنتهى فترتهم يمدون لهم».

وواصل: «فى الضفة، نحاول أن نمارس حياتنا بشكل طبيعى، لكننا نعيش فى سجن بأسوار عالية، فكل طرقنا ومداخلنا مغلقة بالأسلاك الشائكة، والمستوطنون يحرقون القرى، والاحتلال حاليًا يدخل شمال الضفة الغربية بشكل غاشم، فقد كنت فى جنين للتصوير ووجدت واجهات المنازل مليئة بالرصاص، وإطلاق النار يتم هنا دون مبرر».

وتابع: «نحن لا نستطيع أن نتحرك خارج بيوتنا أو أن نحيد عن الطريق، فالحواجز العسكرية أصبحت داخل القرى بدلًا من أطرافها، لكننا لن نترك أراضينا، بل نساعد بعضنا البعض، فإذا كانت لدينا أراضٍ زراعية وحدث تضييق للخناق نعتمد على أراضينا».

وعن الدور المصرى فى دعم القضية الفلسطينية، قال: «نحن ندرك ونثمن دور مصر فى المفاوضات، ونعلم أنها تقف معنا منذ بداية القضية، وتحاول بكل وقتها أن توقف هذه الحرب التى يشنها الاحتلال علينا لإخراجنا من أراضينا».

مصطفى النبيه: تركنا أحلامنا وهربنا.. وأصبحنا «قرابين نُذبح فداءً لآلهة العصر الدموية»

من رحم المعاناة يولد الإبداع الذى يعبّر ويوثق ما يحدث بحق الشعب الفلسطينى، ومن أصحاب هذا الإبداع المخرج والروائى الفلسطينى مصطفى النبيه، الذى استطاع أن يوثق ويلات الحرب بأفلامه الوثائقية التى تنتصر للإنسان والسلام فحازت العديد من الجوائز.

ويعمل «النبيه» فى مجال الأفلام الوثائقية، ومن خلال تجربته الفنية حصل على عشرات الجوائز الذهبية، بالإضافة إلى جوائز الإبداع فى مجال الإخراج وكتابة السيناريو.

ووصف الروائى والمخرج الفلسطينى ما يتعرض له أهالى غزة منذ قرابة عام، قائلًا إنه «بعد السابع من أكتوبر عشنا الصدمة، انفجرت ألسنة اللهب، أكلت الأخضر واليابس، فهربنا من موت إلى موت، تركنا أحلامنا وبيوتنا وخرجنا حفاة عراة لا نعلم إلى أين نتجه».

وأضاف «النبيه»: «فقدت غزة ملامحها، احترقت وتحولت إلى وقود للجحيم، وتم عجن الإنسان بالحجارة، وطحنه مع الأشجار والحيوان، حتى تكونت لوحة سريالية باكية تحمل حكاية (المعذبون فى الأرض)».

وأكد أن الهاجس الذى يشعل رأسه من بداية الحرب، ووسط كومة الحطام التى تحاصرهم، هو: «كيف أوثق الأحداث وأصنع سينما فى زمن الجميع يبحثون فيه عن طعام وشراب؟».

وأجاب: «حاولت توثيق الأحداث كتابيًا، ونشرت العديد من الشهادات، وكان آخرها كتاب نشرته وزارة الثقافة بعنوان (خلف الخطوط)، شارك به العديد من الزملاء، وكان موجودًا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، بعد أن استيقظت من الصدمة الأولى وفقدان الأعزاء ونزوحى من بيتى».

وواصل: «شعرت أننا قرابين، خُلقنا ليتم ذبحنا فداءً لآلهة العصر الدموية، فقررت أن يكون أول عمل لى بعنوان (قرابين)، فهو الأنسب لتجسيد حكايتنا والتعبير عن صدق مشاعرنا، من خلال توثيق مأساتنا وغربتنا وانتقالنا من زمن الحضارة إلى زمن بدائى غريب لا يشبهنا».

وأوضح أن الروائية ديانا الشناوى، فى هذا الفيلم، تحكى كيف عاشت الغربة وحالة الاغتراب فى مساحة ضيقة فرضت عليها، لتعبّر عن رؤيتها عن الحرب من خلال نصها الصارخ الرافض للواقع الباحث عن الحرية، بعد أن قالت إن «الجميلات قرابين للإله، ونحن قرابين العصر الجديد»، و«إننا نعيش فى مزرعة الأجساد ويتم تسميننا لكى نُذبح».

وأضاف: «يرصد الفيلم كيف تحولت حياتنا إلى معلبات بالشكل والمضمون، ومعاناة أولادنا ونحن عاجزون عن حمايتهم، والسبب الرئيسى وراء ضعفنا هو تحولنا فى نظر العالم إلى مجرد أرقام، دون مشاعر وحكايات جميلة، ليخرج السؤال الأزلى الذى يحدد طبيعة وجودنا على هذا الأرض وهو: أيعقل أن الله خلقنا لنموت؟».

وواصل: «حاولت من خلال هذا الفيلم أن أصرخ فى العالم وأقول: نحن بشر، ولسنا مجرد أرقام للمحرقة، من حقنا أن نعيش، لنا أهل وذكريات وبيوت وأحلام، نحن نحب كل المخلوقات ونتمنى السلام للجميع ونكره الموت ومسبباته».

وأكمل: «ليس على المذبوح حرج، ونحن فى غزة ذُبحنا من الداخل، وتم تجريدنا من أى شعور بالأمان، تم تدميرنا نفسيًا لنأكل بعضنا بعضًا، والحمد لله صبرنا كى لا نسقط فى المستنقع، وبقى صراع الأقلية من أجل حب البقاء، أصبحنا جوعًا يطارده جوع، خوف مرعب يأكل صبرك ويهزك، عشنا العطش فأصبحنا نصارع للبحث عن قليل من الماء ونحلم بماء نظيف».

وأكد أن «المساحة التى سمح لنا بأن ننزح إليها جميعًا مساحة ضيقة تساوى ٣٠٪ من ٣٦٠ كيلومترًا مساحة قطاع غزة، لا مأوى لنا سوى الشارع الضيق، ولو توافرت لنا خيمة هل ستحمينا من برد الشتاء أو من حر الصيف؟ فى جحيم النزوح، إن كُتبت لك النجاة ولم تمت من القصف، فهناك ألوان كثيرة من الموت بانتظارك ستكتشفها تلقائيًا بمنفاك، ومنها: حشرات وزواحف، وقوارض، وذباب، وبعوض، الموت يأتيك بأكثر من ثوب ولون».

وعن تأثير الحرب على أعماله، قال «النبيه»: «خلال حرب الإبادة اجتهدت لتوثيق تأثير الحرب على نفسية المواطن، وحاولت جاهدًا أن أهرب من مشاهد العنف والموت التى تبثها القنوات الإخبارية، وأصبحت مألوفة لدى المشاهد ولم تحرك لا عقله ولا عاطفته، وبحثت عن المشاهد التى تنبض بالحياة وتنقل معاناة الإنسان الذى يبحث عن حياة، وتحكى ما لم يُحكَ عن الحرب».

وأضاف: «كان أول عمل لى فيلم (قرابين)، وهو عمل قصير، وشاركنا فيه بعض الزملاء المخرجين الذين وثقوا تجاربهم بالحرب بأسماء مختلفة لأعمالهم، من خلال مبادرة (من المسافة صفر)، التى أشرف عليها المخرج والمنتج رشيد مشهراوى وسوّقها عالميًا، والحمد لله تم ترشيح فيلم (قرابين) وكل الأعمال التى شاركت بالمبادرة من خلال وزارة الثقافة الفلسطينية إلى الأوسكار ٢٠٢٥».

أما العمل الثانى فهو «فنانو غزة: هل تسمعوننا؟» وهو عبارة عن صرخة يوجهها فنانو غزة، بعد التعبير عن معاناتهم وتوثيق كل ما يحدث من مآسى النزوح بصريًا، وكيف تحولت حياتهم إلى جحيم. وحسب «النبيه»: «رسالتهم تحمل كل معانى الإنسانية، وموجهة لزملائهم الفنانين فى العالم، ومن خلال صوتهم الهدار نعيش تأثير الحرب على المجتمع، ونشاهد المعاناة بصريًا من خلال الشارع والباعة وخيام النزوح».

وكشف عن أن الفنان السينمائى والمسرحى القدير جواد حرودة شارك فى هذا الفيلم، وكذلك الفنان التشكيلى العالمى محمد الديرى، والفنانة المطربة لمى جنينة، معتبرًا أنهم الأصدق تعبيرًا عن واقع مجتمعهم، لأنهم يعيشون نفس المعاناة والنزوح والفقد، ويحلمون بالسلام. وأضاف: «نحن سعداء ونشعر بالفخر لمشاركة فيلمنا (فنانو غزة: هل تسمعوننا؟!) فى مهرجان الإسكندرية، مدينة عملاق السينما يوسف شاهين، علمًا بأن الفيلم سينطلق فى جولة عروض عربيًا وعالميًا قريبًا». وأفاد بأنه يعمل منذ ٥ أشهر على فيلم وثائقى طويل يرصد حياة أناس يبحثون عن حياة، وينهضون فوق وجعهم ليقولوا للعالم: «نحن نستحق حياة أفضل»، مضيفًا: «إننا أبناء الحياة، ورغم الكوارث والصعاب نؤمن بأن القادم أجمل، بعيدًا عن التشاؤم الذى يطاردنا ويبث بيننا لوحات قاتمة تنذر بموت مؤجل». واختتم بقوله: «ما زلت على يقين، رغم الكوارث والصعاب التى ما زالت تحلّق حولنا، بأننا سننتصر، ليس لأننا الأقوى، بل لأننا نؤمن بأننا أصحاب حق، ندافع عن قضية عادلة، نحب السلام ونحب كل البشر، ونكره الدم».

صبحى أبوزيد: إسرائيل لو استطاعت منع الهواء عنّا لمنعته.. وصرنا نفضل الموت على المجاعة

بذل نشطاء فلسطينيون جهودًا مضنية لتوثيق الانتهاكات التى يتعرض لها أهالى قطاع غزة، من قصف وحشى وقتل يومى، ومن هؤلاء الصحفى الفلسطينى صبحى مفيد أبوزيد، ٤٥ عامًا.

وتحدث «أبوزيد» عن تجربته فى فتح انتهاكات الاحتلال، قائلًا: «أنقل الأحداث بكل تفاصيلها من الأراضى الفلسطينية، على رأسها ما نتعرض له من انتهاكات لحقوق الإنسان من قبل الاحتلال الإسرائيلى يوميًا».

وأضاف: «مرت على المنطقة عدة حروب عملتُ على تغطيتها، بداية من حرب ٢٠٠٨، ثم حرب ٢٠١٢ وحرب ٢٠١٤ وحرب ٢٠٢١، وأعمل الآن على تغطية الحرب الدائرة، وهى مختلفة عن كل الحروب التى مررنا بها من قبل».

وواصل: «هذه الحرب لم يسبق لها مثيل فى التاريخ، إنها حرب إبادة بكل معانيها، فقد وصل عدد الضحايا إلى أكثر من ٤٠٢٥٠، إلى جانب إصابة نحو ٩٠ ألفًا من المواطنين العزّل، فضلًا عن الآلاف المفقودين تحت الركام ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالهم لعدم توافر الآليات الخاصة والضخمة من أجل إزالة الركام».

وأكمل: «خلال عملى كصحفى فى ظل هذه الحرب، أحمل روحى على كفى فى كل تغطية لى، فكما يعرف الجميع، الصحفى من أهم أهداف الاحتلال، وبالفعل فقدنا ١٧٢ صحفيًا، والعدد فى تزايد مع استمرار الحرب».

وتابع: «مات زملاؤنا الذين كنا نعمل معهم جنبًا إلى جنب فى الميدان، وذنبهم الوحيد الذى اقترفوه فضح جرائم الاحتلال التى تُرتكب ضد أبناء شعبنا الفلسطينى الأعزل، لم يرق للاحتلال ذلك، فأصبحنا هدفًا من أهدافه بحجج واهية، لكن كل هذا لم يُثنِنى عن الاستمرار فى التغطية الإعلامية، حتى لو كانت أرواحنا الثمن، فالتغطية الإعلامية وفضح جرائم الاحتلال مستمران».

وقال الصحفى الفلسطينى إن «هناك مجازر تُرتكب بحق مدنيين عزّل نازحين، متخذين من مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين مراكز إيواء، فضلًا عن المجازر المرتكبة بحق النازحين فى الخيام، مع وجود جثث تتبخر من القذائف الصاروخية التى تلقيها طائرات الاحتلال بالأطنان».

وشدد على أن «ما يجرى فى غزة جريمة حرب بحق الإنسانية والبشرية جمعاء، وإسرائيل بهذه الحرب ضربت بعرض الحائط كل المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وهى مستمرة فى تدمير قطاع غزة بالكامل، فقد ذكرت الجهات المسئولة فى القطاع أن ٨٠٪ من غزة لا تصلح للعيش، والنسبة فى تزايد».

وانتقل للحديث عن أحوال النازحين، قائلًا: «لا يمتلكون سوى الأرصفة والطرقات للمبيت بها، فضلًا عن شح المياه والطعام والأغذية للنساء الحوامل والأطفال. منظومة الصحة انهارت بالكامل وانتشرت الأوبئة، مع عدم وجود دواء ومراكز للعلاج».

وأضاف: «أنا متأكدة من أن كل العالم شاهد ويشاهد حجم المعاناة التى نعيشها فى قطاع غزة، وتغطيتى أنا كصحفى تجعلنى أعيش بهذه الآلام كباقى شعبى، فأنا نازح وأعيش بخيمة، وعائلتى محرومة من أدنى مقومات الحياة، وأحاول بكل ما توافر لى من إمكانات الوصول لمكان الحدث وإجراء مقابلات وتغطية الاستهداف، لكن من الممكن أن يكون الذى أذهب إليه منزل أخى أو أهلى أو جارى أو أحد أقاربى».

وواصل: «حياتنا صعبة، ونحن ننتظر وقف الحرب والعيش بسلام وأمان، لأن الوضع الحالى فى القطاع صعب للغاية، فأكثر من ٢ مليون نازح محشورون فى مساحة حددتها السلطات الإسرائيلية على ساحل القطاع ولا تتجاوز ٥ كيلومترات، على أساس أنها منطقة آمنة، مع العلم بأنه لا يوجد مكان آمن فى غزة، فالكل مستهدف».

وأكمل: «أصبح المواطنون لا يبالون، ويتمنون الموت عن الحياة التى يعيشونها من مجاعة وظروف معيشية لم تحدث فى أى حروب العالم، إسرائيل منعت كل شىء من الدخول لغزة، وإن استطاعت أن تمنع الهواء لمنعته، حليب الأطفال ممنوع، الحفاضات، اللحوم، الخضروات، مواد التنظيف، الأحذية، كل شىء ممنوع».

وعن المشاهد التى ما زالت عالقة فى ذهنه ولا ينساها، قال «أبوزيد»: «هناك مشاهد كثيرة لا تعد ولا تحصى، كم مرة نجونا من الصواريخ وقذائف الدبابات، كل ما فى غزة مشاهد لا تُنسى صراحة، ولكن الحدث الذى أثر فىّ عندما أصبحت مسئولًا عن حياة شخص».

وشرح: «توجهت بسيارتى الخاصة لتغطية استهداف أحد المنازل فى مدينة رفح، فجأة، ودون سابق إنذار تحولت إلى مسعف، بعدما استقلت امرأة سيارتى قبل نزولى منها، وهى تحمل ابنها الوحيد المصاب بإصابة خطيرة، وتصرخ: أنقذ ابنى أرجوك، إنه ابنى الوحيد».

وأضاف: «حملت على عاتقى مسئولية إيصال هذه المرأة، التى تنزف ولا تشعر بنزيفها، وهمها الوحيد إنقاذ ابنها، وبأقصى سرعة تمكنت من الوصول إلى المستشفى الكويتى فى رفح، لكن بعد فوات الأوان، فقد استشهد طفلها، بينما دخلت هى العناية المركزة».

وواصل: «هذا المشهد جعلنى أنهار، بسبب عدم تمكنى من أن أكون وسيلة لإسعاد هذه المرأة التى كانت تصرخ، ولكن قدرة وقدر الله هو الأسبق، ولا نزكى على الله شيئًا، رحمة الله لجميع شهدائنا جميعًا، والشفاء العاجل لجرحانا».

وفيما يتعلق بالدور المصرى، قال الصحفى الفلسطينى: «مصر أم الدنيا، وهى ركن أساسى فى القضية الفلسطينية على مر التاريخ، هى صمام الأمان للشعب الفلسطينى ولكل الدول العربية، وبقيادتها الحكيمة دائمًا بالمقدمة، فى مواجهة كل الأخطار التى تتعرض لها الساحة الفلسطينية، تقف لها بالمرصاد، وتعمل ليل نهار من أجل إيقاف الحرب، مع منع الخطة الإسرائيلية التى تهدف إلى تهجير أهالى قطاع غزة». وأضاف «أبوزيد»: «مصر الآن هى السند لشعب فلسطين فى غزة، الذى ينتظر بفارغ الصبر، وعن طريق الوساطة المصرية، الإعلان عن إيقاف الحرب، وفتح المعبر وإدخال المساعدات التى يحتاجها أهالى غزة».

واختتم بقوله: «لطالما كانت مصر وشعبها العظيم والسبّاق فى كل الميادين السياسية والإنسانية والوطنية مع إخوتهم فى غزة والضفة الغربية والقدس، تحيا مصر وشعبها العظيم».

خالد أبوسلطان: خسرت تعب 12 سنة فى لحظة ونجوت من الموت 9 مرات

«أتت ٧ أكتوبر ومحت كل ما تعبت من أجله طوال حياتى، كل شىء ضاع فى لمح البصر، بما فيه منزلى، الذى كنت أعتبره مملكتى».. بهذه الكلمات بدأ خالد أبوسلطان، صاحب متجر ومدرب تسويق المشاريع الصغيرة فى غزة، حديثه إلى «الدستور»، عما عاناه من أوضاع صعبة طوال عام كامل.

وأضاف «أبوسلطان»: «نجوت من الموت ٩ مرات، ونزحت ١٣ مرة من الشمال إلى الجنوب، ولا يوجد مكان آمن هنا، وكل مكان نذهب إليه ينذروننا بإخلائه على الفور»، مشددًا على أن «هناك تضييقًا شديدًا فى كل مكان».

وواصل: «يوم ٧ أكتوبر استيقظت على صوت صواريخ، ولا أحد يعرف ما السبب، تخيلت أنه تصعيد عادى، فنزلت من منزلى لتأمين الأكل والشرب، فتحت الإنترنت وشاهدت الفيديوهات، فشعرت بأن هناك حدثًا جللًا، فبدأ القصف وانتهى كل شىء». وأكمل: «كنت أعيش فى ليبيا ومنزلى راح، وعدت إلى فلسطين لأبنى نفسى مجددًا، لكن كل ما فعلته فى ١٢ سنة ذهب فى مهب الريح، وصرنا ننام فى الشوارع وعند الغرباء وبين الضحايا».

وتابع: «الجميع ينزح، حتى إن شاطئ البحر من النصيرات إلى خان يونس، الجميع نصب الخيام عليه وأقام فيها، لكن لا يوجد متنفس هنا، فالمكان ممتلئ عن آخره».

واختتم بقوله: «كنا نعيش بلا اتصالات شهرين كاملين، لا نعرف مَن على قيد الحياة ومَن استشهد من أهالينا، ولا يتوافر أى سيارات إسعاف، ونستخدم الدواب لنقل الجرحى، وغيرها من المشاهد المهينة لأى إنسان».

أخبار ذات صلة

0 تعليق