قراءة في ديوان (إشراقة الشمس) للشاعر راشد الخميسي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. رائدة العامرية

(2 من 2)

القصيدة المحورية: بيت القصيد

يحتوي هذا الديوان (إشراقة الشمس) على تجربة شعرية تتنوع فيها مضامين القصائد من نواح عديدة، وفي مجال شعرية وجمالية القصائد التي قدمها الشاعر في ديوانه فكلها تصلح للقراءة والتحليل والنظر النقدي، لكن القصيدة الأخيرة يمكن أن تكون الخلاصة الإبداعية لهذا الديوان، لما فيها من خصوصية وذاتية لها مقومات الشعر الصافي المعبر عن جوهر الطاقة الشعرية للشاعر، وحيث كان النقاد العرب القدامى ينتقون بيتا شعريا من كل قصيدة ويسمونه (بيت القصيد)؛ فإنه يمكن القول إن هذه القصيدة التي وضع لها الشاعر عنوانا جامعا هو: (أبيات متنوعة مختارة) هي بيت القصيد في هذا الديوان، وعلى هذا الأساس فإن قراءتنا النقدية تتوجه نحو تحليل هذه الأبيات المتنوعة المختارة، لأنها تمثل الجوهر الأصيل لتجربة هذا الديوان من نواح فنية كثيرة.

إن العنوان (أبيات متنوعة مختارة) يعني فعالية الاختيار والانتخاب والتنويع على نحو يجعل من ذلك مركزا من مراكز الجمال الشعري القائم على فعالية الاختيار، لذا سنتناول هذه المختارات الشعرية على شكل لقطات تمثل الرؤية الشعرية التي يريد إيصالها إلى المتلقي، ونحاول الكشف عن قيمة كل لقطة من هذه اللقطات في لغتها وصورها الشعرية، إذ تأتي اللقطة الأولى وصفية لشخص الحبيب بلغة حادة في عاطفيتها ووجدانيتها:

(شخصا شغفني دون تركيز

شوفة وفيه الحسن ذباح

تسرح بخده خيل جنكيز

سوون بساحة صدري جراح

واذا طلب مالرمش تعزيز

جاه المدد بسهام ورماح)

تتمثل صورة الحبيب في هذه اللقطة داخل اللفظة (شخصا) وهو في أعلى حالات الشغف الذي يجعل العاشق في حالة عدم تركيز، بحيث يتحول الجمال الأنثوي إلى سلطة تقترب من صورة الذبح (الحسن ذباح)، مع ما يتجلى من ألفاظ الجسد في اللغة الشعرية (خده/ صدري/ الرمش) عبر توافق إيقاعي مع سلسلة القوافي المتجانسة في المعنى والصورة (ذباح/ جراح/ رماح)، بما يجعل الصورة الشعرية في حالة حراك شعري تتجانس فيها اللغة والألفاظ المفردة والأدوات والفعاليات المختلفة، وصولا إلى التركيز المباشر على تفاعل اللغة الشعرية مع الصورة الشعرية لتكوين شعرية التشكيل والأداء.

تذهب اللقطة الثانية من لقطات هذه الأبيات المختارة نحو مديح القبيلة، وهو عرف شعري عربي قديم ينظر إلى القبيلة على أنها مرجع اجتماعي واقتصادي وثقافي وحياتي، بما يجعل الشاعر يمتدح القبيلة بسمعتها ورجالها:

(يا جعلني من عزيت اعزى بني زعبنوت قبيلة سيطها فووق الثريا رقا

رجالها لا تعزووا كل صعبا يموت

علایم افعالهم عدله عــ وضح النقا)

وهنا تظهر صورة القبيلة في أعلى مراتب السمعة الطيبة فضلا عن بطولة رجالها، لأن سمعة القبائل العربية على مرّ العصور تقاس دائما بشجاعة رجالها وهو يذودون عن حماها بأرواحهم وقوة شكيمتهم، فاللغة الشعرية تستجيب لحساسية هذه الصورة العامة وتسهم في صياغة نموذجها على الشكل المطلوب. بينما تقدم اللقطة الشعرية الأخرى صورة شعرية ذاتية تغوص في ذاتيتها بصورة عميقة، وينقل الراوي الشعري حكاية السفر وعلاقة ذلك بالحبيب الذي يكن له أعلى درجات العاطفة والأشواق، ولا يرغب بفراقه مهما كانت الأسباب لأن حياته مرتبطة بحياة الحبيب داخل فضاء هذه الصورة:

(يا سعد قلبي ويا سلواه وسروره

قبل السفر لاقني يا مسبب اشواقي

ما يلتقط لك بعيني فاللقاء صورة

انت مدير التحكم داخل احداقي

لكن شيئاً بقاه القلب وشعوره

ودي اشوفك قبل ما تنوي فراقي)

تحتشد الألفاظ الشعرية كلها في مسار شعري خاص يجعل من اللغة الشعرية أداة لتصوير الحالة الشعرية في أرقى مراتبها، ثم تأتي القوافي (اشواقي/ احداقي/ افراقي) بحراكها الموسيقي المقنن لجعل الصورة الشعرية في حالة تفاعل ذاتي مع اللغة الشعرية، بما يجعل من هذه اللقطة صورة للعاشق الذي يصف الآخر الحبيب بأنه مرز الشعور والوجدان والعاطفة، عن طريق حكاية تتحدث عن إمكانية السفر واحتمال الفراق بين الحبيبين.

ينتقل الشاعر في لقطة لاحقة من لقطاته الشعرية المميزة إلى صورة وجودية تقارن بين عمل السماء وعمل الأرض، وتروي قدرة الله سبحانه وتعالى في مضمار خلق البشرية والصراع الإنساني على الأرض بين الإنسان والشيطان، حيث يستخدم الشاعر لغة مميزة ذات طبيعة سردية حكائية محتشدة بالطاقة الدرامية بهذه الصورة:

(لو بنوا مهما بنوا تبقى السماء فوق المباني

والبشر مهما صنع تبقى صناعاته صغيرة

يسبق أمر الله خيل ابليس وتخيب الأماني

يا صديقي من النوايا السود صفيها السريرة

من تجلى للجبل صوته ودكه في ثواني

قادر انه يدكها الدنيا على نفس الوتيرة)

تتفتح الحكاية الشعرية في هذه الصورة الكلية على رؤية شعرية تروي حكاية الإنسان في الوجود، من خلال حساسية الأفعال الشعرية وحساسية التشكيلات الصورية التي تتفاعل فيما بينها لتأليف الصورة الكلية الحاوية للحراك الشعري بأكمله، فالسماء بمعناها الروحي والمادي معا ترقى فوق الأشياء جميعا بلا حدود، ولعظمتها فإن أي فعل بشري مهما كانت عظمته يبقى صغيرا قياسا بعظمة السماء، والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب النظيفة ويتعامل معها على هذا الأساس، ولا يسمح لخيل إبليس أن تصل قبل أوامره من أجل ألا تخيب أمال العباد، وبما أن صوته تجلّى حين طلب النبي موسى رؤيته فإنه قادر على دكّها في أية لحظة حين يشاء، وهنا تناص ديني قرآني مع الآية القرآنية الكريمة: (فلمّا تجلّى ربّهُ للجبلِ جعله دكّا وخرّ موسى صعقا)، وجاء التوظيف في غاية الدقة على صعيد التشكيل الصوري والاستثمار اللغوي الشعري لطاقة التناص والتفاعل مع حساسية الصورة الشعرية القرآنية.

تتألق اللقطة الشعرية الأخيرة من لقطات القصيدة التي يبدو أن الشاعر قد اختارها بعناية، ووفر لها موضوعات شعرية تدخل في صميم الحالة الشعورية الذاتية والوطنية، ولا سيما حين يتداخل الذات بالموضوع في صياغة الصورة الشعرية من حيث شعرية الوصف والسرد، حيث تروي الذات الشاعرة تجربتها في تفعيل الحواس الذاتية من أجل أن تتلاحم مع الحس الجمعي، حيث تتحول الحبيبة إلى وطن بكل ما يحمله دال الوطن من دلالات وقيم ترتفع في سلّم القصيدة إلى أعلى مرحلة تشكيلية فاعلة:

(صرت أحب حفيت مركزه الحدودي

من محبة لي التقيته في حدوده

شخص عن باقي الملا يفرق بزودي

بالجمال وملتقى النفس الودودة

جيت والخفاق له منقاد قودي

والتقيته وبيح الخاطر سدوده

قلت ياليت اللقاء مره يعودي قال لازم بأذن ربك بانعـودهيالعنودي ليت توفين العهودي نلتقي في بر ينعشنا بنوده)

إن هذه اللقطة الشعرية تروي حكاية شعرية كاملة ومتكاملة من حيث اللغة والصورة والبداية والنهاية، ولو حشدنا المعجم اللغوي لهذه اللقطة الشعري على مستوى الأفعال الأسماء والصفات والأحوال والتشكيلات اللغوية الأخرى؛ سنجد أن الشاعر كان على وعي في جمع كل هذه المفردات اللغوية في منطقة شعرية واحدة، على سبيل التكثيف والإيجاز والتركيز وصولا إلى صورة قادرة على تشظية الدلالات الشعرية على كل مناطق التشكيل، وتعمل القافية أيضا بنفس الأسلوب السابق على شدّ البنية الإيقاعية للصورة الشعرية؛ كي تستجيب للأفق الشعري الخاص بنوعية الألفاظ ودينامية اللغة الشعرية، حتى تكون الحكاية الشعرية التي تنهض على محاولة استعادة الوصل بين الحبيبين نحو برّ منعش.

تعبر هذه اللقطات الشعرية التي اختارها الشاعر ووضعها في نهاية الديوان عن طبيعة فكره في تقديم تجربته إلى المتلقي، ولا شك في أن المتلقي هو هدف واضح من أهدف إنتاج هذا الديوان، وقد وضّح الشاعر ذلك في المقدمة التي وضعها كي تكون مفتاحا مهما من مفاتيح القراءة الخاصة بتجربة هذا الديوان، والديوان على هذا الأساس يمثل تجربة مهمة من تجارب الشعر الشعبي الذي يتّخذ من اللهجة المحلية الإماراتية وسيلة تعبيرية له، حيث يجد جمهور تلقٍّ يحتفي بهذا النوع من القصائد ويشعر أنها تمثله حقاً.

أخبار ذات صلة

0 تعليق