الـ«كاريزما».. التعامل بعقلية الوفرة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

تُقَيَّمْ صفات من يوصف بـ «الكاريزما» من خلال ما يبديه الفرد من سلوكيات وممارسات غير موجود في الآخرين كصفات عامة يشترك فيها الجميع، حيث يكون الحضور اللافت والمؤثر للفرد؛ على من حوله - حسب التعريفات، ولذلك يصنف صاحب الـ«كاريزما» على أنه من ذوي الصفات الذاتية الخاصة «تكوين بيولوجي» بمعنى أنه لا يمكن أن يصبح أحدنا بين عشية وضحاها من ذوي الشخصيات التي يشار إليها بهذا الوصف، حتى لو تعرض لبرامج إعداد الشخصية في أرقى معاهد التدريب، حيث لن يتحقق له التميز إلا من خلال ما يبديه من صفات وتصرفات استثنائية تميزه عن الآخرين، مع التأكيد على أنها صفات غير مكتسبة، وإنما فطرية المنشأ، ولذلك فالذين يشار إليهم بالحضور (الذهني/الكاريزمي) يظلون قلة قليلة في المجموع العام، ويمكن قراءة استشراف صفة الكاريزما في الفرد منذ نعومة أظفاره، حيث يكون متميزا في كثير من سلوكياته، وهو لا يزال طفلا، وفي القصص المتواردة عبر التاريخ؛ فهناك الكثيرون ممن سجلوا مواقفهم المُشرِّفة بفضل كاريزميتهم الفاعلة، ولعلنا نستذكر سويا مقولة الغلام الذي رافق وفد الحجاز الذي جاء مهنئا الخليفة عمر بن عبدالعزير بخلافته، حيث قدمه الوفد ليتحدث عنه، مما أثار امتعاض الخليفة، فما كان من الغلام إلا أن ارتجل في حضرة الخليفة، وقال مقولته المشهور: - «يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان ها هنا من هو أحق بمجلسك منك» فما كان من الخليفة عمر إلا أن يرد بقوله: «صدقت؛ تكلم؛ فهذا السحر الحلال» - بحسب المصدر -.

وهذه المناقشة لا تبحث في مفهوم الـ«كاريزما» كمفهوم علمي، أو التعريف بها، فقد امتلأت المواقع الإلكترونية بالتعريف بها، والصفات التي يتميز بها هؤلاء الكاريزميون، وهي صفات كلها إيجابية؛ كما جاءت في التعريفات؛ وإن كنت لا أتفق مطلقا على ذلك، فوفق هذه الصفات المذكورة للكاريزميين، فإن المسألة يمكن أيضا أن تحمل جانبا سلبيا، بذات المحتوى الكاريزمي، حيث يظل الإنسان هو الإنسان يحمل بين جنبيه خيارات الخير والشر في آن واحد، ولا يمكن تحييد أحد الأمرين عن الآخر على طول خط سير الممارسات والسلوكيات، نعم فالشخص الكاريزمي له ذات الصفات الذاتية المتميزة، ولكن ذلك لا يعفيه إطلاقا عن الممارسات الخاطئة، وعن تجاوز الخطوط الحمراء على الآخرين، ويأتي بالرديء من الأقوال والأفعال، وتكون ممارسته في ذلك فيها ما فيها من الذكاء، والدهاء، والفطنة، بخلاف الفرد العادي الذي إن يأتي بالسلوكيات سواء في جانبها الإيجابي أو السلبي؛ يأتي بها بصورة مباشرة فجة، مجردة من كل رتوش، ولذلك يعاب عليه ذلك، وفي المقابل يثمن سلوك أصحاب الكاريزمات لأنهم يأتون بسلوكيات مغلفة بالذكاء والدهاء والفطنة، فيثيرون إعجاب المتلقي، واستحسانه بما يقولون، وبما يفعلون أيضا، ولذلك فهؤلاء الكارزميون متميزون بجدارة.

وعندما أشير إلى أن الكاريزميين يتعاملون بعقلية الوفرة، فإن ذلك يشير إلى أن أغلب ممارساتهم وسلوكياتهم فيها من الصفات الإيجابية أغلبها، ولذلك؛ فهم ناجحون، ومقدرون، ومحترمون، ويتصدرون المناصب، والمسؤوليات أكثر من غيرهم، لأنهم يمتلكون قدرات عالية في التعامل مع مختلف المواقف، ويتخذون القرارات الصائبة -غالبا- وتظل ندرتهم وقلتهم في مجموعة ما من مجاميع المجتمع هي الواهبة لهم بهذا التميز، ويحظون بالتقدير، ولذلك نسمع كثيرا القول بوصف فلان من الناس على أنه «فلتة» وذلك نظير ما يأتي به من قوى خفية مدهشة في التعامل مع مختلف الظروف، كما يقال - عندما تطرح إشكال قضية ما - إن الحل عند فلان، حيث تتفق المجموعة على أن فلان يملك من القدرات والمواهب، ما لا يملكها غيره، وقد عايشنا أثناء سنوات العمل مثل هؤلاء الناس الذي يتميزون بشخصيات كاريزمية في المجتمع الوظيفي، ولأنهم بهذا التقدير ممن حولهم، فإنهم تتلبسهم كذلك شيئ من الفوقية، على من دونهم، وربما؛ قد يساورهم نوعا من الغرور انعكاسا لهذا التقدير من المحيطين، وخاصة عندما يأتي هذا التقدير أو الاحتواء من المسؤول الأكبر، وإن بقي هناك نوع من التخوف من قبل المسؤول الأعلى من هؤلاء الكارزميين، خوف وصولهم إلى تقدير المسؤول الأعلى، وحصولهم على حظوات أكثر وأوسع، وأكبر، وبالتالي استحواذهم على المناصب، المهمة، أو التقدير الأكثر، ومعنى هذا أن هذه الفئة من الموظفين في بيئات العمل، ولأنهم يمتلكون القدرات الأكثر تأثيرا، قد يعيشون قلقا مضاعفا خوفا من عدم تقدير مواهبهم، أو خوفا من دخولهم في صراعات مع أقرانهم من الموظفين الأدنى قدرات، وهذه الصورة ذاتها قد تقع في محيط الأسر، عندما يتميز أحد الأبناء بهذه القدرات الكاريزمية بخلاف أخوته الآخرين، فقد يحظون بكثير من التقدير من قبل أحد الوالدين أو كليهما، ، وهذا مما يوغر الصدور، ويضيق الأنفس، فيصبح هذا الأخ أو الأخت غير مرحب به بين مجموعة الأخوة غير الكاريزميين، ولنا العبرة والمثل في أحداث قصة يوسف - عليه السلام - مع إخوته.

يعيش الكاريزميون معادلة صعبة جدا، وذلك في عدم قدرتهم على إيجاد نوع من التوازن، بين حالتهم المستنفرة في التميز الذي يتجاوزون فيه ظروف الواقع واستحقاقاته الراهنة، وبين عدم قدرة الآخرين من حولهم تفهم ذلك، مما يعقد العلاقة بين الطرفين، ولذلك؛ فكثيرا ما تحدث مجموعة من المفارقات الخطيرة في ذلك حيث ينكفئ بعض هؤلاء عند عدم قدرتهم على التعامل مع مثل هذا الواقع، وانكفائهم هذا معناه ابتعادهم عن ذروة تفاعلاتهم مع الآخرين، وهناك من يصابون بعقد نفسية من عدم تفهم المجتمع لحالتهم الذهنية المفرطة في تجاوز ظروف الواقع، فالنظرة الاستشرافية التي يتميزون بها تجعلهم يفكرون خارج الصندوق، ويأتون بحلول غريبة، وقد تُقَيَّمْ على أنها غير واقعية، ولذلك فهؤلاء يحتاجون إلى حاضنة واسعة الرؤية الاستشرافية، وقادرة على استيعابهم، وتوظيف ملكاتهم الإبداعية، وهذه الحاضنة ليس يسيرا تحققها، إلا في حالة أن تتكون من عناصر لها القدرة على الانعتاق من مظانها الخاصة، والذهاب مباشرة إلى كل ما يهم الوطن الكبير، ومصالحه السامية، والخطورة هنا أكثر في هذه المعادلة أن يتحكم هوى النفس لدى هؤلاء الكارزميون؛ عندما لا يجدون الأذان المصغية لاستشرافاتهم البعيدة، فيتماهون في المجموع، ويوظفون قدراتهم الذاتية وفق ما هو سائد في البيئة التي يعيشونها، ويحولون وجهة الممارسات من ممارسات وسلوكيات إيجابية لصالح المجموع، إلى سلوكيات غير إيجابية للمصلحة الخاصة، وذلك ليقللوا من الفوارق التي تفصلهم عن المجموع العام من حولهم، وهذا التماهي بقدر ما هو خسارة من فقدان مثل هؤلاء المتميزون، هو خسارة أكبر للوطن الذي يفقد صفوة من أبنائه، من شأنهم أن يضيفوا لبنات متميزة في بنيانه الكبير.

تحتوي كل المجتمعات - بلا استثناء - على صنفين من الأفراد، صنف يتميزون بصفات ذهنية صافية «الكاريزميون» وآخرون يتميزون بصفات ذهنية جامدة لا تقبل التغيير «المعاقون» ولا أذهب هنا في الإشارة إلى الإعاقة إلى «ذوي الهمم» إطلاقا؛ فهذه مسألة أخرى؛ وانعكاسا لهذا الواقع المجتمعي يكون هناك صراع خفي بين الفئتين، وتظهر تأثيرات هذا الصراع على سطح التفاعلات اليومية بين أفراد المجتمع، فيؤثر تأثيرا بالغا على المحصلة النهائية لمختلف الجهود المبذولة، ولأن أصحاب الأذهان الصافية قلة، وقد لا يمتلكون حسم المواقف؛ أي ليسوا من أصحاب القرار؛ ومقابلهم كثرة متسلطة بيدهم كل الوسائل المتاحة، فهنا تقع المعادلة في محنة يظهر من خلالها مجموعة من الإخفاقات المستمرة، سواء في تطبيقات البرامج الرسمية للحكومة، أو البرامج الاجتماعية في خدمة المجتمع، ولا شك أن في ذلك حكمة الخالق عز وجل، ليظل التنافس بين البشر قائما، ومتوهجا، ففقدان أحد هذين الركنين في التفاعلات القائمة بين البشر؛ يُلبس الحياة شيئا من الصور النمطية غير المقبولة في خضم حياة لن تستمر إلا بوجود هذا التوهج والتفاعل بين أفراد المجموعات المختلفة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق