الفضاء وحيدا يفسّر الجانب الوجودي وملامح التغيّرات على الذوات في العمل الفنّي، وبما أن الرواية قادرة على رسم ملامح ومظاهر تغيّرات المكان من خلال مواقف الشخصيّات؛ فإن كل هذه الملامح تتحوّل إلى هيمنة بما كان له من تأثير أو ما يتركه في وقت الشخصيّة الراهن، ولا يمكن تجاوز ذلك لأنّ المكان بكل مكوّناته وإن قلّت هو رحم تجربة الرواية.
يعين الكاتب محمود الرحبي مظاهر هذه الهيمنة بتحوّلات سريعة أستطيع أنْ أقول: إنه اختزل الزمن ليكثّف هذه الهيمنة على شخصيّة سالم بن محسن في روايته الأخيرة «طبول الوادي»، والطبول هي شكل من أشكال هذه الهيمنة، وهي صوت الداخل الهارب من مكان يجمع فيه الروائيّ بين قسوته من خلال شخصيّة «سالم» ورحمته من خلال شخصيّة «زهران»، فصوت الأول: «هذه الحياة لا يمكن أنْ تُناسبني. سأضطرّ لأنْ أعيش حياة مريرة ولن أتعود عليها. وسأنتظر أيّة فرصة للهروب» ص170، والثاني: «تحرّكت رغبات قديمة لدى زهران في تلك الجولة القصيرة التي صاحبه فيها سالم، ثم رأى نفسه يتنزّه وحيدا. تتداخل في رأسه الذكرى وكأنما رأى هذا المكان من قبل. وقد سمع عن وادي السّحتن وبدا له الآن كحلم يتحقّق» ص159، فسالم تحرّر من وادي الجبال الشّاهقة «مندوس عمان» ليقع تحت هيمنة وادي عدي؛ وهذه تحقّقت بما وجده سالم من نجاة من كل شيء.
«بعد أن رأيتُ وادي عديّ صار عذابا أنْ أعيش حياة غير التي عشت فيها» ص170.
يرى يوري لوتمان أن المكان الذي يمتدّ من الجسد دوائر متراكزة تتّسع من حيّز فردي لممارسة حياة الفرد إلى أشكال أخرى لهذا الحيّز، وتختلف القيمة التي يضفيها الفرد عليه، وهذه الإضافة تعتمد على استعدادها الناتج من أسباب كثيرة مثّل سالم منها الخوف والبحث عن مكان لا يقيّد فيه حرّيّته بممارسة ما يريد، أو أنْ يكون في قيد الحياة التي يعيشها في ظل أبيها «الشيخ محسن» في وادي السّحتن.
الكاتب صنع عالمين متقاربين على الرغم من اختلافهما الشديد؛ والتقارب تمثّل ببناء النظائر المتعددة التي تمثّلت في كثير من العادات التي لا تزال قائمة في الخليط السّكانيّ، إضافة إلى علاقات قاطني وادي عديّ بسكان الريف العمانيّ؛ حيث الزيارات وعادات اللقاء وتبادل السّلع، فالهيمنة تبسط نفوذها من خلال النقائض أحيانا وأحيانا من خلال التداخل الذي فرضته المدنيّة في تحوّلات عمرانيّة واجتماعيّة في تلك الحقبة الزمنيّة لعُمان، ويقف سالم على وادي عدي بوقفته على وادي عديّ.
«اعتلى الجبل الذي تحيط امتداداته وادي عديّ من ثلاث جهات. رأى في الطريق الصاعدة أعشابا تنمو بعفويّة، متخلّلة الصخور كأنها تتشبّث بها كي لا تسقط» ص65.
هذا الحنين يكمن في استدرار الكثير من الذكريات التي عاش في حضنها سالم وهو يغامر صاعدا الجبال بصحبته رفاقه لتدخين السيجارة، هنا تعكس الجبال شكلا آخر للحياة في مسقط، حياة لم يعلم سالم ما يمكن أنْ يصير بها، والطبيعة التي شكّلها الكاتب مغايرة في الذات؛ إذ هي كثيرا ما تتسلّل إلى عمران وتحضّر المدينة عبر الشخوص، فزهران الذي ترك حياة الطبيعة في زنجبار مجبرا؛ عاش في وادي عدي بين الأسمنت والمباني؛ بينما بقيت روحه هناك يعوّض هذا الفقد بزيارة ابنته في الشرقيّة، ومع ذلك لم يجد هذا العوض إلى في جنّة «وادي السّحتن»، وهو في صمته وفي خضمّ حركة الناس بين البنايات وعلى الشوارع في أعمالهم المختلفة يستعيد نبض الطبيعة ويعيش استعاداته، بينما سالم يسعى إلى عالمه ويحلم بأكثر مما هو أمامه، وتنزّ ذكرياته منه في صراعه بين تخلّيه وتحقيقه ما يريده وهو ظل تحوّله الباهت.
«قام أبي في صمت... جهة سلاح ناريّ مثبّت في الجدار، وفي تلك اللحظة أطلقتُ ساقيّ للريح.
كانت قرى وادي السّحتن المتناسخة تختفي ورائي وأنا أركض عاري الرأس، حافي القدمين، لا أحمل في جيبي بيسة حمراء، ولا أعرف إلى أين سأذهب» ص36
في ثورة الاضطرار هل كان المكان سجنا يحرم سالم من البحث عن خروجه على حدوده، فضل تصرّف الشيخ محسن بين جميل يراه سالم في استشرافه مكانا آخر بعيدا في مسقط، وتأنيب ضمير تمنّاه لو تغيّرتْ مجرياته العاطفيّة بعد أنْ أكّدت له أمه في عودته لجنازة والده؛ بأن أباه لم يرد إصابته بالرصاصة؛ إذ لا يمكن أن يقتل ابنه لفعل كشرب السيجارة، نقول: هل كان المكان سجنا، وقد كان سالم ينتظر ثقبا في جدار لينفذ منه بكل إصرار إلى عالمه الذي يريد، ويرسم الكاتب قرى وادي السحتن بشكل تحوّل الذات إلى مجهول يبحث فيه عن تحرر من صرامة المكان والشيخ والناس، فالمكان / القرى متناسخة من الأفكار والموروث أكثر من تناسخها من المبنى ومادته، ولهذا فحيّز الصرامة يقيّد كل من يفكّر فيما يتّصل برغباته ويحرمه من أحلامه، كما حصل مع عيسى.
«لم يكن عيسى مجنونا قبل أنْ يتعلّق قلبه بعاتكة... وذات يوم صرخ الخال في وجه أخته أنْ تردع هذا المجنون وإلاّ قتله» ص63.
وسجنه المكان بعاداته وقسوة أفراده، وزوّج الوالي حبيبته، وتاه يرسم ذكريات وآلام الفقد قلوبا مجروحة على الطين.
وصالح:
«أنت تشرّدت من أجل سيجارة لكنّي أفعل أمورا أنْكى ولا أحد يعلم عني» ص127.
هذه الهيمنة بكل أشكالها تنعكس على تحوّلات الشخصيّات إلى مختلف رؤاها ومواقفها، معبّرة عن نفاذه في الذات صراعا ورغبات في الانعتاق من ثوابته إلى المختلف، وكأني بالكاتب يقوّي هذه الهيمنة بالمعاني الناتجة من المتعاكسات الاجتماعيّة والمدنيّة في ثوب بسيط نصل بأسهل معانيه إلى تواضع هؤلاء الشخوص وبساطة الحياة في تلك الحقبة، حيث نستطيع أنْ نصل إلى رغبة الكاتب في تعيين ملامح البشريّ الخارج على صرامة موروثة ليكون في محيط يجهله، وحين يدهشه يحاول فهمه من نواقصه التي لا يريد أكثر من توفّرها له، ويكاد المكان الشاهد الأكثر ذكاء على الانتقالات المختلفة بين بساطة «سالم وشبوت الهنديّ» وأحلام «زهران» المختفية حول ذكرياته المكانيّة.
«بعد أنْ تمعْن في تفاصيل الصّورة البانوراميّة للمدينة من الأعلى، هبط من الجبل. وحين استوى على الأرض دفع رجليه في الطرقات. الأطفال يجدون متنفّسهم كاملا في اللعب بسبب البيوت المتقاربة والضّيّقة..عبْر الأزقّة المتناسخة عدّة مرّات. وادي عديّ صغيرة، لكنّها كتلة مزدحمةٌ، ببشَر لا تجانسَ بينهم» ص65 ــ 66
ثقافة المكان هنا مولودة من طبيعة تكوّنه؛ ليس بمعنى الحيّز الذي يمكن تخيّله، والذي يرتبط بمرحلة معيّنة بدأ فيها متأخرا في تكوّنه البشريّ مقارنة بالحيّز الذي يسبقه إلى البحر، فمسقط المدينة السّمراء ابنة البحر ووجه عمان التاريخيّ والحضاريّ، بعدها بدأت تكبر بثقافات ساكنيها المختلفين أصولا ومواقف وأحلاما، وادي عديّ يشكّل صورة جغرافيّة لهذا التّوسّع والتّنوع، وفي تيه سالم وشروده في صورتها انعكاس دهشته وحرّيته؛ إنها تشببه في هروبها من قيد المجتمعات المتعاونة على وأد المختلف والراغبين في الأهواء والملذّات، يمشي في أزقّتها المتحرّرة من سطوة الرقيب وعدوّ الاستمتاع بالألم والأمل، هذه النظرة يرسمها الكاتب رغبة مدينة في رغبة ذات، شخصيّة تعرّفت على البعيد قبل أنْ تعيش شكله بسيجارة تخفي تناولها عن عيون الآخرين.
«لا يحتاج سالم الآن إلى شيء من هذا الحذر، إذ سيدخّن سيجارته على رؤوس الملأ، فوق السّطح وتحت الشّمس» ص84
حرّرته حريّة المكان وحرّر هو المكان من خوفه وحذره كذلك وآفاقه
«اشترى سالم راديو ترانزستور، فبدأ يقلّب ريشته بمهل فوق السّطح، وكأنّ العالم ينتقِلُ بين أصابعه» ص97
لا يمكن أنْ تكون هذه التّحولات لولا هيمنة المكان، والمكان هنا ثقافة واختلاف، «ببشَر لا تجانسَ بينهم»، صنعوا المكان وصنعهم، ليس هناك تماثل في الموروث، التّرابط في قرى وادي السّحتن يتجاوز السؤال عن الحال واللقاء؛ إنه ارتباط بما تراه أجيال الحقبة الراهنة ثقلا على طاقة المسؤوليّات، وهو يعود إلى لحمة أخلاقيّة وقبليّة ومكانيّة فرضتها ظروفٌ انتقلت هذه اللحمة بمستوى مختلف من الفهم عبر الأجيال.
«بسبب موت الشّيخ، بدا المكان فارغا من الفلاحين الذين كانوا في مثل هذا الوقت يشرعون في صعود أعمدة النّخيل... وقفتُ لحظة أتملّى المكان الفارغ مُسْقِطا عليه صوَر الذاكرة، ثمّ ما لبثت أنْ اسْتحثثتُ خطاي من جديد» ص143
هذا التّحول في شخصيّة سالم هي انتزاع مكان من مكان، وعلى الرغم من الذكريات وزمنها الذي بناها على مهل في طفولته؛ واصل طريقه إلى إعادة المجهول بشكل مختلف، سالم ابن مكان آخر؛ ترك في ذاته الكثير من الاختلاف في رؤية العالم.
«كم أنا ممتَنٌ لهذا الخوف الذي جعلني أكتشف حياة أخرى مختلفةً عن حياتنا في هذه القرية التي تبتلعها الجبال. أنْ أعرف الحريّة، التي لا يمكنني التّخلي عنها» ص164
هذه هيمنة المكان التي لم تتجاوز بعد مساحة الجغرافيا ورؤية أكثر من عادة حياة الناس اليوميّة؛ إذ لم يكن وادي عديّ يرفع صوته كثيرا، فما زالت الناس وإن كانت مختلفة التفكير؛ لكنها تفهم الحياة ببساطة وتستقبل الجديد برؤيّة متواضعة، لكن هذه الهيمنة على كلّ حال كافية لتشكّل بأدوات الكاتب أرضيّة معاكسة لتحولات الشخصيات في الرواية.
محمود حمد شاعر عماني
0 تعليق