القبيلة من أهم الظواهر الاجتماعية، ومن أخطرها، وبعكس ما تذهب إليه الدراسات الكلاسيكية للقبيلة بأنها مرحلة للانتقال من البداوة إلى التحضر، فإن القبيلة هي نتاج الاستيطان البشري. والبشر.. مبتدأ أمرهم تشكلت علاقاتهم بالاستيطان، وكان تنقّلهم موضعيًا لكسب القوت في دائرة جغرافية لا يكادون يخرجون عنها. وأما الانتشار فبطيء، وكانت الجماعة لكي تنتقل من إقليم إلى آخر تحتاج إلى مئات السنين، ولمّا انتشر الناس بين أقاليم الأرض أخذ التنقل ينشط بينهم بقدر حاجتهم وصراعاتهم، فظهرت البداوة، خاصةً؛ بعد استئناسهم الحيوانات كالجمل، إذ استلزم الأمر أن يبيتوا في الصحراء. وقد حملوا من حاضرتهم لبداوتهم أوضاعهم الاجتماعية؛ وأهمها: الصراع والتركيبة القبلية، وكلاهما أمران سياسيان.
دأب كثير من دارسي الأنثروبولوجيا على القول بأن ما يحكم القبيلة هو «قانون شح الموارد»، بناءً على أن أصل نشأة القبيلة هو البادية القاحلة، غير أن هذا القول لم يعد متماسكًا أمام الدراسات الحديثة. نعم، هناك صراع على الموارد، لكنه ليس الأساس في نشأة القبيلة واستمرارها، فلو كان هذا دقيقًا لاختفت مع الوفرة، أو ضعف دورها. إن ما يحكم القبيلة قوانين عديدة، السياسة في مقدمتها.
المقال يدرس القبيلة العمانية، محاولًا فهم خطوطها العامة وأهم تحولاتها، فهي جزء من التكوين الإنساني عامةً، والعربي خاصةً، أضف أن للقبيلة العمانية خصوصية، لا ترجع لامتيازات عنصرية ونسبية، وإنما لعوامل سياسية فرضتها جغرافيا عُمان والهجرات السكانية إليها.
التأريخ المعرفي لعُمان الذي وصلنا.. يبدأ عمومًا بدخولها الإسلام، وما كتب حتى الآن عن القبيلة هو واقع تحت تأثير «قلم المثقف المسلم»، الذي لم يستطع قراءة الواقعة الاجتماعية بعيدًا عن معتقداته الدينية وصراعاته السياسية، وقراءته هذه أثّرت على إدراكنا للقبيلة.. بل أثرت على البناء القبلي ذاته، وإن كان تأثيرًا محدودًا أمام التطور العام للقبيلة، والذي حددته السياسة في كل أطوار التاريخ. ومع تطور مناهج البحث والتفكير في العصر الحديث بدأنا نقرأ قراءة أخرى مغايرة لفهم القبيلة، وأول قراءة للقبيلة العمانية في ظل الدراسات الحديثة -المتوفرة في وقتها- ما قدمه البريطاني جون ولكنسون في دراساته عن عمان وأنظمتها السياسية والدينية والقبلية والاقتصادية، بيد أن هذه الدراسة كلما تقادم بها الزمن تعرضت للنقد والمراجعة من الباحثين، وهذا وضع طبيعي في العلم، فالعلم.. تراكمي وينسخ بعضه بعضًا، ويبقى لولكنسون فضل السبق في دراسة القبيلة العمانية، وأنا أحد المستفيدين منه في فهمها، كما أني قدمت ملاحظاتي على دراساته، ولا زلت أفعل ذلك.
لم تتوفر لولكنسون المادة التاريخية عن القبيلة إلا ما كُتب في ظل «الثقافة الإسلامية الكلاسيكية»، سواءً أكانت المراجع عمانية أم عربية، وهي مادة ندرك اليوم بأنها -مع أهميتها- علينا أن نأخذها بحذر، وأن نعيد قراءتها من مصادرها بروح المقارنة العلمية الخاضعة للمناهج الموضوعية، مع عدم إدخال معتقداتنا الدينية والقبلية. إن أهم مرجع ظهر بعد ولكنسون يمكن أن يفيدنا في قراءة القبيلة العمانية وتشكّلها الأول هو كتاب «في ظلال الأسلاف.. مرتكزات الحضارة العربية القديمة في عمان» لسيرج كلوزيو وموريسيو توزي، وقد كتبت فيه مقالًا بعنوان «في ظلال الأسلاف.. عمان قبل الميلاد» نشرته مشكورةً جريدة «عمان» بتاريخ: 18/ 4/ 2023م، وقد قلت فيه: (فإن كان السالمي بـ«تحفة الأعيان» جعل التأريخ العماني في عهده الإسلامي مقروءًا؛ فإن كلوزيو وتوزي جعلا الحضارة العمانية القديمة مقروءة من خلال كتابهما «في ظلال الأسلاف»، وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب).
لم تقتصر فائدة الكتاب على تقديم فهم لما جرى في عمان قبل الإسلام، وإنما أعاد فهمنا لتاريخها في العهد الإسلامي؛ لأن التاريخ سلسلة من الأحداث، آخذ بعضها بحجز بعض. ورغم هذا.. فإن الدراسات التي نقدمها ستظل محتاجة إلى التطوير باستمرار، ليس لأنها في بداياتها فحسب، وإنما لأن المواد التأريخية والآثارية ذاتها لا زالت في بدايات تكشّفها، حتى بما يتعلق بتاريخ ما بعد الإسلام؛ فهناك الكثير من الوثائق التي ظهرت متأخرة خلال الخمسين سنة الأخيرة عدّلت من رؤيتنا المعرفية لتأريخنا، ولا زال يتكشف المزيد من الوثائق يومًا إثر يوم.
إن من أهم ما أوجده الوضع الجيوسياسي في عُمان هو «قانون الشَّف»، والشَّف هو تحالف قَبَلي ينظم العلاقة بين المكونات الاجتماعية في السلم والحرب، وقد نشأ قديمًا قبل الإسلام، وبهذا هو سابق على البناء المعرفي للقبيلة الذي تَرسّمَ في العهد الإسلامي، والذي يقوم على سلسلة النسب، التي لا تجد لها اليوم مصداقية في ظل البحوث والمناهج العلمية والموضوعية. وهو كذلك؛ سابق للبناء الديني «نظام الولاية والبراءة» الذي تقوم عليه الإمامة التي ساد حكمها عُمان لأكثر من ألف سنة. فالشَّف.. تحالف قَبَلي خارج تقاليد النسب وتنظيمات الدين، لقد أثبت التاريخ العماني الطويل عمق الشَّف القَبَلي، حيث تراجع أمامه التنظير المعرفي والممارسة الدينية.
باستقرائي للتأريخ العماني وتحليلي لأهم تحولاته.. أقترح -حتى الآن- ثلاثة أطوار للقبيلة العمانية:
أ. طور ما قبل الميلاد.. وهو الطور الأطول والأعمق، وقد ترك تأثيره على ما بعده، لكن الدراسات فيه تحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل والمراجعة حتى تنضج. إن من المهم دراسة الأنظمة المؤثرة على القبيلة في هذا الطور؛ وهي: النظام السياسي المتمثل في «الدولة المدينة»، والنظام الديني كدفن الموتى في القبور البرجية، والنظام الزراعي من خلال شبكة الأفلاج، والنظام الاقتصادي كإنتاج النحاس، والتبادل الخارجي، من التأثير والتأثر الذي أوجده التواصل البحري.
ب. طور ما بعد الميلاد.. بحلول ميلاد المسيح بدأت تظهر ثقافة جديدة في الجزيرة العربية، كانت نتيجة ثلاثة عوامل:
- الصراع بين الروم والفرس.. الذي أدى إلى انهيار الكيانات القبلية القديمة في جزيرة العرب؛ ومنها عُمان، وبروز تحالفات قبلية جديدة على أساس الاستقطاب الدولي، حلف باتجاه الفرس مثّله المناذرة ومملكتهم الحيرة في العراق، وحلف باتجاه الروم مثّله الغساسنة وممالكهم في الشام، وقد شهدت عُمان هجرات غيّرت بُنيتها الاجتماعية، وهيكلة القبيلة من جديد.
- التحول الديني.. لا نعرف حتى الآن طبيعة الأديان في عُمان التي سبقت الميلاد، وما نقوم به هو محاولة فك «الخارطة الجينية» لأديانها قبل الميلاد، ومع انتشار النصرانية في المنطقة، وفي حوالي القرن الثالث الميلادي دخلت عُمان وانتشرت فيها، ومع بزوغ نجم الإسلام كان معظم العمانيين يدينون بها. هذا العامل ترك أثره في التحالفات القبلية الجديدة، لاسيما؛ أن النصرانية انتشرت بدعم من فارس الزرادشتية.
- الثقافة.. أحدثت الهجرات والتحولات السياسية والدين الجديد انقلابًا ثقافيًا واضحًا، وأسميت هذه الحقبة «طور الانقلاب الثقافي». تشكّل فيه حلفان كبيران؛ هما: اليمانية والنزارية، كان المُلْك من نصيب اليمانية؛ لقوة نفوذهم في جزيرة العرب. واصلتْ القبيلة خط سيرها هذا في العهد الإسلامي، وفي ظل نظام الإمامة الجديد استمر الحكم في اليمانية، فيما استأثرت النزارية برئاسة «أهل الحل والعقد»، ولم يشهد هذا التقسيم تغيرًا كبيرًا حتى قيام الدولة الحديثة عام 1970م، رغم أنه حدثت باستمرار تحولات قبلية، لكنها في إطار الحزبين الكبيرين.
ج. طور الدولة الحديثة.. من أهم ما قامت به الدولة الحديثة أنها أنهت بُنية الاجتماع القديم، وأعادت هيكلة القبيلة من جديد. فبعد أن كانت تقوم على «الشَّف» وتحالفاته، وشيخ القبيلة هو المرجع الذي يدير شؤونها ويحدد تحركاتها، وسلطته فوق سلطة الحاكم، أصبحت القبيلة جزءًا من الشعب الذي تحكمه مؤسسة الدولة، وأخذت سلطة الشيخ تنحسر شيئًا فشيئًا، وأمام هيمنة الدولة لم يبق له إلا الريع المالي والوجاهة الاجتماعية، والتي تأطرت كذلك بتقاليد الدولة الحديثة.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».
0 تعليق