معيار الجدية في التحريات السرية «1» - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

تلاحظ لنا خلال الفترة الأخيرة ازدياد عدد قضايا التحريات السرية، وذلك نظرًا لاعتماد رجال السلطة العامة ومأموري الضبط القضائي على التحريات السرية بالاستعانة بالمصادر الخاصة في ضبط العديد من الجرائم، وحيث إن الاقتصار على التحريات السرية دون سواها من الأدلة في هذه القضايا يخلّ بالضمانات المهمة التي كفلها النظام الأساسي للدولة، ونصّ عليها قانون الإجراءات الجزائية، بافتراض أن الأصل في الإنسان البراءة، وأن الشك يفسر لمصلحة المتهم.

ونظرًا لما تلعبه التحريات السرية الشرطية من دور محوري وأساسي في نظام العدالة نحو كشف الحقائق المتعلقة بالجريمة، وجمع الأدلة، وتحديد المتهمين ودورهم في الجريمة، وذلك عن طريق تقديم الأدلة الموثقة والمعززة التي تطمئن إليها العدالة وتعتمد عليها المحكمة في قضائها، ونظرًا للخطورة التي يمثلها هذا الإجراء المسمى بـ«التحريات السرية» من تهديد صريح لحرمة الحياة الشخصية والمسكن الخاص، لابتناء تلك التحريات على مصادر سرية غالبًا ما تكون واشية كاذبة، ويخفيها مأمور الضبط القضائي القائم بالتحري تحت ستار الحفاظ على المصدر السري والصالح العام، فإن الكاتبة تتصدى من خلال هذا المقال إلى المقصود بالتحريات السرية، ومعايير صحتها وجديتها، ودور الادعاء العام كسلطة تحقيق ابتدائي في مراقبة جدية التحريات ومدى الاطمئنان إليها من عدمه.

المقصود بالتحريات السرية: هي إجراء استقصائي يباشره مأمور الضبط أو رجل السلطة العامة بنفسه أو بواسطة الغير، عن طريق من يعاونه من المصادر السرية بالنسبة لجريمة معينة تجاه شخص يشتبه في ارتكابها، يهدف منه الوقوف على وقوع الجريمة ومعرفة فاعلها.

ومعيار جدية التحريات السرية يتمثل في قدر الجهد المبذول في جمع الأدلة، والحقائق، والبيانات الدقيقة عن الشخص المطلوب التحري عنه، بهدف كشف غموض وملابسات جريمة بعينها لتحديد أشخاص مرتكبيها أو المشتبه فيهم. إلا أن هناك بعض القيود على القائم بالتحري، تتمثل في الآداب العامة، والأخلاق الاجتماعية، والضوابط القانونية. حيث تخضع التحريات إلى قاعدة مشروعية الدليل الجنائي، التي تتمثل في عدم جواز لجوء مأمور الضبط القضائي إلى استخدام الوسائل والإجراءات غير المشروعة في سبيل الحصول على الدليل، فإن الجزاء الذي يقرره القانون جراء مخالفة قاعدة مشروعية الدليل يتمثل في إبطال واستبعاد الدليل المستمد من الإجراء المخالف لقاعدة المشروعية، وتبطل التحريات التي تنطوي على المساس أو تقييد حرية المتحرى عنه أو المساس بحرمته أو حرمة مسكنه.

ومن ثم، يحظر على مأمور الضبط القضائي القائم بالتحري التصدي للأسرار والحياة الخاصة التي تخص المتحرى عنه (المتهم)، إلا في حالة الضرورة إذا ارتبطت بالجريمة. لا يجوز للقائم بالتحري التحريض على ارتكاب الجريمة بقصد ضبط المتهم؛ لأن مهمة مأمور الضبط هي الكشف عن الجرائم دون أن يتدخل بفعله في وقوع الجريمة أو التحريض على مقارفتها، لما في ذلك من مخالفة لأحكام القانون وللخلق القويم، ولما يتنافى مع رسالة السلطات العامة، وهي ضبط الجريمة بالوسائل المشروعة وليس الدفع لارتكابها.

وحيث إن أمر تقدير جدية التحريات وكفايتها لإصدار إذن التفتيش أو القبض من المسائل الموضوعية التي يوكل الأمر فيها إلى الادعاء العام، باعتباره سلطة التحقيق الابتدائي تحت رقابة محكمة الموضوع باعتبارها سلطة التحقيق النهائي.

ونقصد بجدية التحريات مدى مطابقة التحريات للحقيقة، التي يشترط فيها أن تكون حقيقة مستخلصة من معطيات وأصول ووقائع ثابتة تنتجها وتؤدي إليها، وخالية من مظنة إساءة استعمال السلطة، وألا تكون وهمية ولا صورية.

وتتنوع صور عدم جدية التحريات السرية، حيث إن القانون لم يحصرها في حالات معينة، وذلك ضمانًا لصون الحياة الخاصة للإنسان. فمنها ما يرجع إلى الوسائل التي يعتمد عليها مجري التحري، ومنها ما يرجع لشخص المتحري نفسه.

فمن صور عدم الجدية التي ترجع إلى وسائل التحري: عدم دقة المعلومات والبيانات، والاعتماد على مصادر سرية سيئة السلوك والسمعة، وسبق اتهامها في قضايا سابقة، وعدم تنوع مصادر التحري، والاكتفاء بما يرد من معلومات من المصدر السري دون التأكد، وافتقاد التحريات لقوامها وأهم عناصرها، وهو عنصر المراقبة، وغيرها من الصور التي تتمثل في التشكيك في صحة المعلومات المفرغة بمحضر التحري. أما من صور عدم الجدية التي ترجع إلى الشخص القائم بالتحري نفسه فهي: اعتماد القائم بالتحري على الاستنتاج والتخمين الظني، والتأثر نفسيًا أو ذهنيًا بقيمة بعض الأدلة دون الأخرى أو الانحياز في تقييم الأدلة ضد المتهم، أو تأثر نفسية القائم بالتحري بنوع الجريمة أو ظروفها والعوامل المحيطة بها.

وفي شأن التحريات، قد استقر الفقه القانوني وسايرته محكمتنا العليا على أن التحريات وحدها لا تصلح دليلا أساسيًا على ثبوت التهمة، ولا يجوز إقامة الأحكام على مجرد رأي محرر محضر التحريات أو الضبط. ولا تصلح التحريات وحدها أن تكون قرينة أو دليلاً أساسيًا على ثبوت التهمة؛ لأن ما تورده التحريات دون بيان مصدرها لا يعدو أن يكون مجرد رأي مجريها، وهو يخضع لاحتمالات الصحة والبطلان والصدق.

وحيث إن هذا المقال لا يكفي وحده لبحث كافة أوجه الصحة والبطلان في التحريات السرية، والدور المبدئي الذي تلعبه سلطة التحقيق المتمثلة في الادعاء العام في تقدير جدية التحريات وكفايتها لإصدار أمر القبض والإذن، فإنني أكتفي في هذا المقال بالجزء الأول، على أن نكون على موعد في الجزء الثاني في موضوع «معيار الجدية في التحريات السرية».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق