«على الجانب الأيمن من خشبة المسرح، أم وأب ينتظران ابنهما الذي لا يأتي إلا مجازا، باعتبار ما يتمنيان أن يكون، ورجل وامرأتان على الجانب الأيسر من الخشبة، فـي حالة واقعية وافتراضية، فكأنه يهرب من الواقعية إلى الافتراضية بحثا عن الوهم؛ فالمرتبط بها لها رأي فـي العلاقة الإنسانية ناقدة لعدم التفاعل العاطفـي والاجتماعي، لذلك يجد نفسه يميل للافتراضية التي صممت كروبوت آلي، كي تقدم للرجل ما يريد، دون مساءلة. أما على الخشبة جميعها، فثمة قصة الأخ والأخت اللذين يتفرقان بسبب حرب ما، ويلتقيان بشكل مفاجئ؛ فهو العامل فـي مجال التقنيات الاتصالية المعاصرة لدى المنظومة الحاكمة، بينما تكون هي قد كبرت وقادتها الصدفة لتتزوج الرئيس، وتستعيد ما كان من أحداث فـي الماضي عند رؤية أخيها، فتحاول استعادة وعيه المفقود.
ترى ما الناظم هنا خاصة فـي ظل سيطرة المرئيات الاتصالية صوتا وإضاءة؟
فكرة انتظار الابن الذي يبدو أنه مشكوك بوجوده، وفكرة العلاقات العاطفـية الحقيقية والافتراضية الوهمية، وفكرة استلاب الذاكرة.
جذبنا عرض «قلب صناعي» لفرقة جسد المقدسية الشابة فـي مسرح القصبة، لنفكر به أولا خلال العرض وبعده، وصولا لتقدير فكرة هندسة العقول وبرمجة البشر، والتي لو تم التركيز عليها لخف تشتت القصص التي لم تعمق الفكرة الإنسانية المهمة فـي الكشف الناقد لعلاقة الحكام بالمحكومين.
وعلى ذلك، فعند قراءة أدبيات التعريف بالمسرحية، أجد أنها لم تقدم العرض بشكل عميق، ذلك أنها لم توضح فعلا ما يحدث فـي العرض، ذلك أن الاعتماد على الآلة فـي حياتنا يختلف عن تطويع الآلة من أجل السيطرة:
«إلى أي مدى تسهم الآلة فـي تغذية إنسانيتنا أو تجريدنا منها؟ قلب صناعي، عرض مسرحي يعكس التصور البشري للمستقبل من الناحية الاجتماعية والإنسانية والسياسية».
قام الشابان محمد باشا، وفراس فراح (ممثل)، بتأليف العرض، بتأثيرات نظم الحكم اليوم، وتحولات الحياة التقنية، من أجل بلورة فكرة إنسانية.
مسار العاطفة والحب، والزواج، المسار النفسي الاجتماعي، والمسار السياسي، كأن العرض قصد نقد المنظومة. لقد رمز العرض للكشف عن تجريد المجموع من الذاكرة، ليسهل السيطرة عليهم وحكمهم ويفعلون بهم ما يشاؤون. وتصبح استعادة الذاكرة أمرا صعبا، مشبها ذلك باستخدام المفتاح السري للدخول. يكون، تقنيا، استخدام وجه الرئيس بمثابة كلمة الدخول.
وهنا، ينجح العرض فـي إظهار الماضي، حيث يستعيد الأخ ما حدث فـي الماضي، ويرى الأمور على حقيقتها بعد طول تخدر. يستعيد الذاكرة فـيرى الحب واللجوء.
هذا على مستوى المحكومين، أما على مستوى الحاكم (المنظومة)، فلم يعد الحاكم يكتفـي ببقائه مسيطرا خلال فترة حياته، بل راح يعمل على إطالة عمره، فإذا بحث الحكام من قبل عن إكسير الحياة، فإن الحاكم المعاصر يبحث عن إيجاد بديل تقني يذكرنا بظاهرة الاستنساخ. لم يتغير فـي عالم الحكام شيء، هم هم ومن حولهم.
نعود إلى الجانب الأيمن من خشبة المسرح، إلى الأم والأب اللذين ينتظران ابنهما الذي لا يأتي، فهل كان ذلك مثلا لتعميق اليأس من تغير المنظومة، وأنه لا بد من فعل لتحقيق الهدف، بدلا من مجرد الانتظار؟
ولربما جاء النقد السياسي مرتبطا بالنقد الاجتماعي فـي علاقة الرجل والمرأة، فكما أن هناك ديكتاتورية سياسية، فهناك ذكورية تريد المرأة على مقاس حاجته لا حاجتهما معا.
لذلك ثمة أمل حين يعود الرجل إلى صوابه، فلعل التغيير الاجتماعي مؤسسا لتغيير فـي بنية المجتمع خاصة بما دخل من وهم قادم من عالم السوشال ميديا وتقنيات صناعة الروبوتات.
إن هدف عرض «قلب صناعي» النبيل هو ألا تصبح قلوبنا صناعية.
أما الرؤية الإخراجية فقد جعلت الشكل والمضمون متداخلين، كما اندمج التمثيل الواقعي مع محاكاة تمثيل الروبوتات. بصريات الحواسيب والأجهزة فـي عمق المسرح، أدخلت المشاهد نفسيا وفكريا فـي عالم التقنية. لقد وفقت كل من حياة لبان مصممة الجوانب البصرية، ورمزي الشيخ قاسم مصمم الإضاءة مع المخرج فـي توظيف هذه الجوانب نفسيا. كذلك انسجمت الموسيقى التي أعدتها ايفان ازازيان مع روح العرض.
ولعل تقسيم جوانب الخشبة لمشاهد منفصلة كمشهد الزوجين المنتظرين لابنهما، هو نوع من عرض قصص جانبية تفـيد المسار العام للمسرحية. كما كان لحيوية الممثلين (ريم تلحمي، فراس فراح، نضال الجعبة، فاطمة أبو علول) دور جاذب للمتابعة، خاصة القدرة على تمثيل أكثر من دور.
جميل هذا الإبداع لفرقة شابة، ومثير هو عمق التفكير فـي نقد المنظومة، بل وفـي التصريح بما تتعرض له الذاكرة من تشويه وحصار وتزوير. جميل هذا الوعي لفرقة شابة تمتلك التفكير النقدي، والاهتمام السياسي والوطني والإنساني. جميل هو فعلا هذا الحماس الشاب المؤمن بقضية الحكم وحق الشعوب فـي التحرر.
ثمة دلالة هنا فـي اتجاهات الشباب الفلسطيني اليوم فـي التفكير فنيا وثقافـيا وفكريا، وبخاصة الفنانين، على خشبة المسرح، الذي سيظل دوما حاضنا للتغيير والارتقاء.
وهنا لعلنا نتفاءل حين شاهدنا «قلب صناعي»، حيث إننا نطمئن بأن الجيل الجديد على وعي فكري وتقني، بما يؤهله للدخول إلى عالم المسرح الفلسطيني والعربي بقوة، وسيكون للاستمرار سواء كفرقة أو من خلال مسارح أخرى دور مهم فـي زيادة درجة الإبداع. إن استمرار المسرح الفلسطيني بشكل خاص هو تجل لاستمرار الثقافة الفلسطينية المستندة إلى الوعي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
هي تجربة أولى لفرقة الجسد المقدسية التي شكل المسرح الوطني الحكواتي حاضنة لها، والتي كما يبدو تستكشف عالم المسرح المعاصر. لعله تجريب معاصر، يحتاج إلى اختبار الأشكال الفنية التقليدية والحديثة، والانتباه إلى هذا النوع من المسرح يحتاج إلى التركيز فـي المضمون من خلال سردية ما، عبر شكل مسرحي سيتقنه الجيل الجديد بالطبع.
0 تعليق