تمر الأمة الإسلامية في هذه المرحلة بمنعطف كبير ومرحلة حاسمة من الصراع بين المسلمين المدافعين عن المسجد الأقصى وفلسطين وأعدائهم من الصهاينة المحتلين للأراضي الفلسطينية، فقد استطاع المقاومون في غزة أن يضبطوا بوصلة العالم ويضعون هذه الكيلومترات القليلة تحت عدسة محدبة جذبت إليها أفئدة الضمير الإنساني في العالم أجمع، فاستطاعت أن تعيد تشكيل وعي الشعوب والأمم، وأعادت المشهد الفلسطيني إلى الواجهة، بعد أن كاد أن تذهب به أيدي المطبعين إلى أزقة النسيان، لولا أن طوفان الأقصى أطاح بالمشروع الصهيوني، وعرَّى ضعفه ووهنه، "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
ومن المؤكد أن حال المؤمنين صائر إلى الفلاح، فإن ينصرهم الله فلا غالب لهم، والغلبة عند المسلمين يتجاوز المعايير المادية للنصر إلى معايير لا تتوفر إلا عند أصحاب هذا الدين العظيم، وقد يقفز لأذهان البعض تساؤل "كيف يعد طوفان الأقصى انتصارا وغلبة للمجاهدين المقاومين من أبناء فلسطين وقد أحال العدو المحتل قطاع غزة إلى خراب ودمار؟ هذه النظرة سطحية وتفتقر إلى العمق والنظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة، فهذا الكيان الغاصب منذ قيامه قبل 76 في 1948 م إلى اليوم كان يراهن على نظرية الردع، وأن دولة إسرائيل دولة قوية وأن لها من الإمكانات العسكرية والتفوق التقني، ما يجعل خصومها ومن حولها يشعر بالرعب منها، فلا يجرؤ أحد أن يقف أمامها، ورسمت في أذهان الناس من خلال الآلة الإعلامية الضخمة والإنفاق الهائل لأجل نشر هذا الأمر وترسيخه في عقول العرب والمسلمين، كما أنها محمية حماية عظيمة من قبل مشروع القبة الحديدية، وكذلك من قبل حلفائها من الصهيونية العالمية التي تمثلها الدول الغربية الكبرى، وأنفقت من أجل ذلك مليارات الدولارات، إلا أن كل هذا العمل وهذا المشروع الرادع تبخر في 3 ساعات في لحظة انطلاق معركة طوفان الأقصى، والذي جعل من كل هذه الصورة الزائفة محل تندر وطرفة حول العالم أجمع، وكانت تلك الثلاث ساعات كفيلة بتدمير ما رسمته وخططته ونفذته وراهنت عليه هذه الدولة المحتلة على مدار 76 عاما.
فأصبحت صورة المجاهد وهو يسحب الجندي الصهيوني من دبابته ويقوده كما تقاد البهائم للذبح هي صورة انحفرت في أذهان كل مسلم، وأن هذا الكيان هو كيان ضعيف لا يمتلك قضية عادلة ليحارب من أجلها، وإنما غررت به دولته وأغرته بالمال لكي يناصرها في مشروعها الاحتلالي الاستيطاني، وجعلت الأمة تستشرف أيام تحرير المسجد الأقصى وفلسطين عامة من أيدي الصهاينة اليهود.
ثم إن العدو الغاشم لم يحقق أي هدف من أهدافه المعلنة من اجتياح غزة إلى اليوم، فلم يرجع المخطوفين، ولم يستطع أن ينهي حماس من القطاع، وبالتالي لم يرجع المستوطنين إلى غلاف غزة، ولا تزال حركة حماس تمثل تهديدا أمنيا استراتيجيا لإسرائيل، وقد ثبت الله أقدام المجاهدين، والثبات هو أحد معايير النصر عند المسلمين، فلا يزال المقاتلون يذيقون العدو الغاشم أنواع الهزائم، وهم صابرون محتسبون مقبلون غير مدبرين، فيقول الله تعالى في سورة محمد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" وهذا ما حدث في طوفان الأقصى ويحدث الآن، فقد نصرهم الله وحقق أهدافهم بأن دخلوا وقتلوا الجنود وأخذوا الرهائن، وهم الآن ثابتون صامدون، وبين ذلك النصر وهذا الثبات لا بد أن يكون هنالك ثمن يدفعه المسلمون ولكنه غرم رابح، وهذا الغرم الرابح يتمثل في استشهاد أهل غزة من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، فكانت أرواحهم ثمنا للقضية، فكان صمودهم إعجازا أمام سمع العالم وبصره، فدخل الناس في دين الله أفواجا بسبب صمودهم وثباتهم وطمأنينتهم ورضائهم بقدر الله، وهذا مقصد رباني ذكره الله في كتابه العزيز فقال تعالى: "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ".
وكل هذه المحن والمصائب التي يمرون بها من قتل وتشريد وتهجير إنما هو حكمة الله البالغة، فالله يجعل الفرج بعد الشدة، ويمتحن المؤمنين بالشدائد والكرب ثم يكتب لهم الفلاح والنصر والغلبة، وهذا يتفق مع قوله تعالى: "والله غالب على أمره"، وهذه الآية وردت في معرض الحديث عن قصة يوسف عليه السلام، ولو عملنا مقاربة إلى حال يوسف عليه السلام والشدائد التي مر بها منذ أن ألقى به إخوته وهو طفل في البئر، ومن ثم إخراجه وبيعه على أنه عبد مملوك، وبعد ذلك تعريضه للفتن، ثم رميه في السجن، كل هذه المحن التي كانت في سنين طويلة منذ أن كان طفلا إلى أن أصبح رجلا، وهو نبي من نسل أنبياء، فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، أعقبه الله بعد ذلك بأن جعله مسؤولا على خزائن مصر، "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
ومن المفارقة الغريبة أن أهل غرناطة اتخذوا لهم شعارا وهو "لا غالب إلا الله" واشتقوه من هذه الآية، وقد نقشوها في قصورهم وأبنيتهم، وهذه العبارة كما يقول المؤرخون أن لها قصة تدور أحداثها حول الخيانة ومحالفة الأعداء، وذلك أن أحد ملوك غرناطة تحالف مع الإسبان ضد المسلمين الذين في إشبيلية، لكي يتخلص من دفع الأموال والجزية إلى المسلمين، فعندما عاد ودخل المدينة أخذوا الناس يحيونه ويصرخون ويقولون "الغالب" الغالب" فرحا أنهم تخلصوا من الجزية، ولكنه شعر بأنه لا يستحق هذا اللقب بسبب خيانته وتحالفه مع الأعداء، فقال "لا غالب إلا الله" وطلب أن ينقشوها في القصور لكي تذكرهم أنهم خانوا أهلهم ورعيتهما وتحالفوا مع الأعداء في إسقاط إشبيلية آخر معقل للمسلمين في الأندلس، ونحن في هذا العصر نقول لكل المخذلين والمطبعين الذين خانوا الله ورسوله بتخليهم عن مقدساتهم وتحالفهم مع أعداء المسلمين من الصهاينة الغاصبين ضد أبناء دينهم من أهل فلسطين، نقول لهم "لا غالب إلا الله"، ونقول لهم كما قال تعالى: "إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ".
0 تعليق