لم يكن مستغربا أن تفضي الحالة الأمريكية في فترة الديمقراطيين بكل تعقيداتها الاقتصادية واللاأخلاقية (حالة الهوس بالمثلية) فضلا على الممارسة السياسية والعسكرية إلى دفع الناخبين الأمريكيين للتصويت لصالح شخصية جدلية متطرفة مثل الرئيس الأمريكي الحالي الذي أدى انتخابه إلى ارتدادات عالمية منذ اللحظات الأولى لتنصيبه الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة من كندا لغاية الصين وروسيا وأوروبا والشرق الأوسط بطبيعة الحال.
وليس ثمة ما يدهش في هذا السلوك الإمبريالي المتعالي والمزدري لكل ما هو غير أمريكي خاصة من جانب «ترامب» والحاشية الملتفة حوله الآن من بليونيرات التقنية وكبار رجال الأعمال اليهود وغلاة الجمهوريين وغيرهم ممن وجدوا فرصتهم التاريخية لإعادة صياغة المشهد الأمريكي وتفكيك مؤسسات الدولة والاستفادة من الفرص الهائلة لهذا النفوذ والتنفع. وبالتالي انطلق هذا السعار للاستحواذ على كندا وجرينلاند وقناة بنما والاستيلاء على غزة المدمرة بل ولم يتردد في فرض التعريفات والرسوم الجمركية على العالم كله في ضربة خاطفة ضد الاتفاقيات التجارية الدولية الثنائية والجماعية واللافت في هذه الحقبة أنه عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية والصهيونية فسحقا لكل الأعراف والأخلاق والقيم الإنسانية والاتفاقيات الدولية والأصدقاء والأعداء طالما أنه يخدم الخزانة الأمريكية وصورة «ترامب» في أوساط الجمهوريين على مستوى الداخل الأمريكي واللوبي الصهيوني.
وأيا كان موقفنا من هذه «الترامبية» المتوحشة التي تتمترس بأيديولوجيا أمبريالية استعلائية عنصرية فإننا أمام واقع معقد للغاية، ويكفي أن نرى ما يحدث في غزة والتهديد بسرقتها وتهجير سكانها وتلك اللغة الازدرائية المستفزة للقوى العربية والطريقة الوقحة التي تخاطب بها إسرائيل العالم العربي اليوم.
إن هذا الواقع يفرض الآن استحقاقات هائلة للإبقاء على ما يسمى بالنظام العربي المثخن بجراحات الخيانة والتدهور والتآمر واليأس الشعبي والذي يكاد يخلو من بارقة أمل تعيد للعرب موقعهم على الساحة الدولية ولا يفوتني الإشارة إلى موقف سلطنة عمان الرافض لهذه السياسات وكذلك موقف الأشقاء في المملكة العربية السعودية ومصر الذين رفضوا بشكل قاطع تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم.
أعتقد أن العرب في ظل هذه «الترامبية» المتوحشة مطالبون بالالتفات إلى التهديد الوجودي الذي يتربص بهم في ظل تمترس الإمبراطورية الأمريكية وراء الأجندة الصهيونية بكل تفانٍ واستسلام ولعلها لحظة تاريخية فارقة للعمل على مزيد من التقارب والتضامن العربي والإسلامي والتعاضد مع حلفاء جدد قبل أن تتشكل «سايكس بيكو» جديدة لابتلاع مستقبلهم وجغرافيتهم وحري بالقوى العربية اليوم أن تنبري إلى تكثيف جهودها وإعداد العدة للمستقبل والاصطفاف معا لمواجهة التغول الإسرائيلي فاليوم غزة وغدا ما بعد غزة، إذا ما تم الاستسلام الكامل للسردية «الترامبية» وشريعة الغاب التي انطلقت بكل بشاعة من البيت الأبيض منذ تنصيبه رئيسا.
على الصعيد العالمي هناك ما يشبه لحظة انبلاج تاريخية مع انتهاء النسخة الأمريكية (إن صح التعبير) ما قبل «ترامب» ويبدو أن هناك «حالة رفض عالمية» تتشكل في الأفق مع تهديد الكثير من القوى العالمية بالرد بالمثل بما في ذلك الصين والاتحاد الأوربي وكندا وغيرها. تجدر الإشارة في ذات السياق أن الصين لربما هي المستفيد الأكبر من هذه التحولات الأمريكية المتطرفة ولعلها تماثل تاريخيا استفادة الولايات المتحدة من السقوط التاريخي المدوي لأوروبا إبان الحرب العالمية الثانية في أوج بزوغ القوة الأمريكية.
وللمفارقة فإنه لا يبدو أن للنخب الأمريكية من مثقفين وأكاديميين كبار وعلماء وطبقة الانتلجنسيا وقامات علمية ضخمة تأثير حقيقي وثقيل على هذا السعار الذي ينطلق من واشنطن نحو العالم. ومع ذلك بدأت تظهر بعض الأصوات مثل «ديفيد بروكس» الذي نشر مقالا في النيويورك تايمز بتاريخ 23 يناير الماضي حول رؤيته بفشل سياسات «ترامب» مشيرا إلى أن (تاريخ العالم يُظهر لنا، منذ الثورة الفرنسية على الأقل، أن الاضطرابات السريعة تجعل الحكومات أسوأ بشكل كارثي)، ومنوها (أن هناك فرقا كبيرا بين من يعملون بروح وثقافة الاضطراب ومن يعملون بروح وثقافة الإصلاح).
في السياق الأمريكي ذاته، وصفت مجلة الإيكونوميست «ترامب» في عددها الصادر بتاريخ 25 يناير 2025 بـ «الرئيس الإمبريالي»، في إشارة إلى الرئيس ويليام ماكينلي (1897-1901)، لافتةً إلى أوجه التقارب بين رؤيتهما الاقتصادية، لا سيما في دعمهما للتعريفات الجمركية المرتفعة والتوسع الاقتصادي. ولا يُخفي ترامب إعجابه بنهج الرئيس ماكينلي، الذي شهد خلال فترة رئاسته ضم هاواي، وغوام (جزيرة في غرب المحيط الهادي)، والفلبين، وبورتوريكو إلى الأراضي الأمريكية. كما كان ماكينلي من أبرز المدافعين عن التعريفات الجمركية المرتفعة وقد حظي بدعم كبار رجال المال في عصره، مثل جيه. بي. مورغان وجون دي. روكفلر، بحسب تقرير المجلة.
ورغم حالة جلد الذات في الأوساط العربية وثقافة القنوط واليأس التي تهيمن على الكثير من السرديات العربية إلا أن ما تشهده الأمة العربية من تحديات وجودية خطيرة في راهنها يستدعي تجاوز هذه الثقافة (رغم يأس الكثيرين من حدوث أية ردة فعل عربية تصل إلى درجة القنوط)، ولعل حالة الرفض التي فجرتها حرب غزة وارتداداتها العالمية وانكشاف رخص ونفاق الغرب وازدواجية المعايير ،إلى جانب ما يقوم به الرئيس الأمريكي الحالي من استهداف للأصدقاء والأعداء تحت راية «أمريكا أولا» و«لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» تشكل مبررات وجودية حقيقية لتعزيز التقارب العربي وتكامله وهو ما يستوجب من القوى العربية الفاعلة أن تعيد تموضعها في هذا السياق الدولي المعادي بما يخدم المصالح العربية ويعيد للمواقف العربية هيبتها والتخفف قدر الإمكان من تداعيات هذه الحقبة المعقدة على أمن دولها واستقرار أنظمتها ورخاء شعوبها في ظل حروب تجارية واقتصادية وعسكرية لا تراعي صديقا من عدو.
يحيى العوفي كاتب ومترجم عماني
0 تعليق