مغامرة فـي كهف الهوتة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

أثناء دراستي الإعدادية.. ما إن سمعت حديثًا عجبًا وملهِمًا من ابن عمي محمد بن عبدالله العدوي عن كهف الهوتة بولاية الحمراء حتى شعرت برغبة تشدني إلى زيارته، ولمّا بلغت العشرين من عمري شددت إليه الرحال برفقة بعض الأصدقاء، حينها؛ كان بكرًا لم تلمسه يد السياحة، إلا يد المستكشفـين الذين مدوا حبلًا طويلًا من فتحة دخوله حتى عمقه. عندما كنت أستعين به خشية التعثر فـي فجاج الكهف؛ تمثّل لي حبلًا سريًا يمدني بالحياة فـي الرحم، والذي من دونه الهلاك، وتساءلت.. هل يحتاج الإنسان إلى حبل سري فـي كل الكهوف التي يتنقل فـيها لكي يحافظ على حياته؟

وقع فـي بالي من حديث ابن العم أن الكهف واسع، لكن لم أتخيل سعته الكبيرة، لم أكتشف ذلك بداية نزولي؛ فالكهف معتم.. لا ترى فـيه إصبعك، فدفعني الفضول أن أسلط المصباح فـي كل الاتجاهات لينتشر ضوؤه كاشفًا سعة الكهف الهائلة، وكاشفًا فـي الوقت ذاته فـي ذهني سعة كهف الكون العظيم، فمجراته ونجومه وكواكبه وأفلاكه التي لم يكتشفها الإنسان بعد، تسبح كلها فـي كهف يعجز العقل والعلم عن تقدير سعته، ومع ذاك، هو مظلم، إنه حقًا مخيف بظلمته.. ومخيف بعظمته.. ومخيف بانفرادنا فـيه نحن البشر، الذين لم نعرف حتى الآن شريكًا عاقلًا لنا فـي الكون. إذًا، ما الذي يبدد هذه الظلمة القاتمة؟ ليس شيء سوى نور الله؛ المصباح الإلهي المتقد بين جوانحنا.

كهف الهوتة.. أصله فج واسع فـي وادٍ بين جبلين، نتيجة انهيار كبير فـي العصور الجيولوجية أغلق الفج، إلا من فتحتين ضيقتين شكلتا مدخلي الكهف، كل فتحة بمقدار ما يلج الإنسان منفردًا. يا لعظمة الحياة.. الانهيار يصنع الجمال! شعرت بأن هذا الكهف العظيم يحاكي النفس الإنسانية.. بل نسخة من الكهف الكوني. المكان متسع كالحياة، إلا أنه ضيّق بالظلمة التي يسبح فـيها، أو هي تسبح فـيه.. هل نستطيع أن نبصر منها بعقولنا وعلومنا إلا ما نبصر من الكهف ما يقع تحت ضوء مصباحنا اليدوي؟ إننا نسلخ من أرحام أمهاتنا فندخل كهف الحياة؛ لنصطنع لأنفسنا ملابس بالية، نظل نكدح فـي الحياة لأجل أن نبدّل فـيها أوضاعنا.. ونبدّل أمكنتنا ومشاعرنا.. ونبدّل أعداءنا وأصدقاءنا. لذا، نحتاج إلى حبل من الله يعصمنا من الهلاك فـي كهوف أنفسنا.

كهف الهوتة.. بارد منعش، ملاذ عن لهيب الخارج، وكأن الكهف هو ما يخفف عنا وطأة الحياة الساخنة، لكنه كثير المهاوي والمنزلقات، فعليك أن تعتصم بالحبل المدود لتصل إلى عمقه، هناك تجد جابية، إنها ماء الحياة فـي كهف الكون، فأحياء الكهف ترتوي منها، ولو سألت الصَّدَّ «السمك الصغير» الأعمى الذي يسبح فـيها: ما الذي يحلو لك من المكث هنا وأنت لا تبصر؟ لضحك من كلامك ورد عليك: أنت من يحتاج إلى جارحة لتبصر، أما أنا فأبصر الوجود بالماء الذي منه كل شيء حي.

الجابية الباردة.. تتسع أمامك، بحيث لا ترى نهايتها بالمصباح، سبحتُ مواصلًا معرفة غرائب الكهف؛ فوصلت نهايته، وكالحياة لم تكن النهاية، وإنما كانت حرفًا صخريًا يكاد يلتصق بالمياه، فضول الشباب أغراني باجتيازه، ثم أحجمت، ليس لدي وسيلة أمان لعبور المضيق. بيد أنه ألقى فـي روعي أن هناك حياة ثانية خلف هذا الحاجز، وهل يكترث الإنسان بمستقبله إلا لاعتقاده بأن هناك حياة أخرى وراء حياته الفانية؟

الكون بأسره كهف.. ألم أكن فـي رحم أمي؟ هذا الكهف الطري، يحمي الجنين من مخاطر نشأته الأولى؛ ليدفع به إلى أخطار المستقبل، ولو خيّرتُ لما اخترتُ أن أتخلق، فالعدم.. لا خطرٌ مرتقب، ولا هَمٌ داهم، ولا معاناة نازلة، وماذا تعني الحياة، ثم تنزل على كاهلي بثقلها العظيم؟ مهلًا.. ليس لي أن أتذمّر من الكهف، فما هذا الشعور تجاهه إلا عدمية قاحلة من اخضرار أي جمال. أي خير فـي العدم؟ خواء يفصلك عن نور الحياة؛ إن متعة معاناة الخروج من الكهف لهي ألذ من الفضاء الرحب، إن الحياة أوجدت قدرة على الاستفادة منها بالمكابدة أكثر من الراحة المطلقة.

إذا كانت هذه هي النشأة الأولى للإنسان؛ فما نهايته؟ إنها الموت، لحظة التحرر الحقيقي من الكهف إلى المطلق، إن التوق لرؤية ما وراء الكهف مغروس فـي تلافـيف العقل وحنايا النفس؛ ليدرك الإنسان أن ذلك ليس مصدره الجسد الفاني.. بل الروح الإلهي الخالد، فطمحت النفس أن تنعتق من جسدها، لتدخل عالم الخلود، إلى حيث لا وجود لكهف يحجب ما خلفه. وعندما رأى العجلى أن دخول القبر هو كهف أيضًا؛ ذرّوا أجساد موتاهم رمادًا فـي عين الريح بعد أن حرقوها بغية تحرير أرواحهم. وما دروا أن الروح لا يحبسه جسد ولا قبر ولا كهف. فالروح.. التي لازمت الجسد هي التي منحت الإنسان التوق إلى الانعتاق من الكهف.

فـي الطريق إلى كهف الهوتة رأيت غنمًا تقتات على شجيرات الوادي، فاستحضرت يفاعتي عندما أخرج إلى السيح «البرية» لرعي غنمنا؛ إنه رتع فـي الخلاء.. محاولة للخروج من الكهف الذي يلازمني فـي البيت والمدرسة والملعب والسفر؛ ليس السفر الذي يحملنا فـي غرف السيارات أو دهاليز الحافلات فحسب، وإنما السفر القديم الذي بدأه الإنسان بركوب البحر، فصنع سفـينته على غرار الكهف الذي يسكنه، وعندما روّض «سفـينة الصحراء» لتنقله، وجعل عليها هودجًا يقيه الحر والصر؛ اتخذه على شكل كهف.

رعي الأغنام.. محاولة للخروج من الكهف، سباحة فـي البر، وتحرر من الروتين، وإعادة تنظيم للأفكار، ولذلك، اشتغل كثير من الأنبياء والفلاسفة والأدباء والمفكرين والمصلحين بالرعي، فكان له أثر على نفوسهم الكبيرة، فعادوا إلى كهف مجتمعهم ليحرروه.. ليعيدوا بناءه بحكمة الراعي وواقعية الكهف. الكهف شأن واقعي.. لم يستطع الإنسان أن يتحرر منه، فكان ملاذه الذي يفـيء إليه، فاتخذه مسجدًا لتعبّده ومنزلًا لسكناه وطقسًا لتصوفه ولوحةً لتأمله، إنه الكهف الذي نهرب منه لنجد أنفسنا بداخله. عندما رعيتُ الغنم، أدركتُ هذا المعنى، أدركت أن الكهف أيضًا هو ملاذ من حرارة شمس الحياة الحارقة، وهبوب رياح النفس العاصفة، وأوامر المنزل التي لا تنتهي، وبرامج التلفزيون التي تبحر بنا بعيدًا عن أنفسنا وواقعنا.

مرت الأيام بين كهوف الحياة.. كهف الفصل الدراسي، كهف المكتبة الجامعية، كهف العمل، كهف الزوجية، كهف السفر، كهف الأولاد. وأخيرًا، ولجت الكهوف المجاورة لكهف الهوتة، بحثًا عن خطوات أسلافنا القدماء فـي مدينة كدم العظيمة، فكنت فـي كهوف المتعبدين، وهم يمدون أيديهم تضرعًا إلى معبودهم الذي يمنحهم الطمأنينة من تقلبات الحياة ولأوائها، ولم ينسَ بعضهم أن يوثق ابتهالاته إلى خالق الوجود برسمات على جدار كهفه، ولمّا أفل نجم عبادتهم وجدنا ما تركوه من معالمها، بما لا نعلم حتى الآن مقصودهم منها. ووقفتُ على كهوف تقديم الأضاحي، ولا أدري أهي بشرية أم حيوانية أم نباتية، إن الزمن كاشف عنها يومًا ما لنكتشف تضحياتنا فـي رحلة الإيمان بالمطلق، وقد لا يفعل ذلك، فتطوى أسرار الماضي عن أعين الآتين. وقفت على كتاباتهم، وكأنهم أرادوا أن يفلتوا من الفناء، فـيرسلوا إلينا رغبتهم فـي البقاء برموز حسبوها عصية على الاندثار.. رموز كتبوها بمداد أحداثهم اليومية ومعتقداتهم الدينية، وغلفوها بمشاعرهم النفسية.

إن الإنسان فـي محاولته المستمرة لفهم الكهوف التي تحجبه عن النظر إلى الوجود والانطلاق فـي الكون، يخرج من كهف فـيلج آخر؛ إنه فـي دوامة أبدية، ولذلك؛ تعلّق قلبه بعالم مطلق، حيث لا كهوف، ولا ظلمة، ولا أسرار، ولا حبل سري، حيث تتلاشى كل المغامرات.

أخبار ذات صلة

0 تعليق