الـنـمـرود - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

بين جدران ذاك البيت القديم، وبينما يسدل الليل ستاره، تعالت صرخات الألم من تلك الغرفة، وعلى الفور، تحلّقت نسوة البيت حول أمينة، وتيقن أنه اليوم المنتظر، أسرعت إحداهن لجلب القابلة (المولّدة)، لم يكن هناك يوم أعسر على أمينة من ذاك اليوم، وكأن عنجهية المولود تأبى أن يتم استقباله في ذاك البيت المتواضع، فلم يجدوا حيلة غير نقلها بسرعة إلى المستشفى، ومنذ تلك اللحظة وهو يظن أنه محور الكون، وأن كل من حوله رهن إشارته، فقد فرض رأيه بعد أن لبى الجميع رغبته في أن يولد في مكان فاخر، لم تكن تلك هي المعضلة الوحيدة التي اعترض عليها ذاك المخلوق، بل كانت هناك معضلة أخرى وهي تسميته، ففي حين كان الجميع في فرحة منشغلين بالبحث عن اسم مميز يسمون به المولود الجديد، كان هو لا ينقطع عن البكاء، وكلما اختاروا له اسمًا ازداد بكاؤه وصراخه، وكأنه يحتج على كل اسم لا يروق له، حتى اقترح أحدهم بأن يُسمى (النمر)، عندها توقف عن البكاء وكأنه ينظر إلى مستقبل هذا الاسم بأنه سوف يكون شرسًا والجميع يهابه.

كان كل من أمينة وزوجها يغدقان على نمرهما بالاهتمام؛ لأنه مولودهما الأول الذي جاء بعد طول انتظار، فلم يثمر زواجهما إلا بذاك النمر وبأختين من بعده ، نتيجة هذا الاهتمام الزائد، ترسخت في ذهنه فكرة أنه محور الكون، فكان ينتهج منهج العنف مع أخواته، لم يكن للنمر أي شيء يميزه؛ فمن ناحية الشكل هو أقل من عادي، ومع ذلك كان يظن ألا أحد يضاهيه في الجمال غير يوسف الصدّيق، ورغم أنه كان متعثرًا في دراسته، فقد كان يعتقد أنه لا يوجد أحد يجاريه في الذكاء.

كان يحمل من صفات قابيل وإخوة يوسف الكثير، فقلبه مليء بالحقد والحسد والغيرة، تعاظمت تلك الصفات عندما التحقت إحدى أخواته بالكلية، بعد أن حصدت ثمار جهدها واجتهادها في الدراسة، فحصلت على منحة دراسية على نفقة الدولة، فكان يستغل سفر والده ليتصيد لهن أبسط الأخطاء، فيبرحهن ضربًا حتى يخرج أضغانه وأحقاده، فقد كان يحمل الفكر الجاهلي تجاه الفتيات فهن بالنسبة له مصدر قلق ومجلبة للعار.

مرت الأيام والتحق النمر بوظيفة صغيرة في إحدى الشركات، فصار وجوده قليلا بالمنزل، ورغم أنه لم يعد يستخدم العنف بشكل دائم مع أخواته، إلا أنه بين الحين والآخر يتسلّط عليهن بلسانه أو يرمقهن بنظرات الاشمئزاز، وكان الحوار بينهم تقريبا شبه معدوم.

كان النمر ذا شخصية متناقضة جدًا؛ فبينما كان يمارس بعض أنواع الديكتاتورية مع أخواته في المنزل، كان يظهر للناس في الخارج وكأنه الشخص المثالي الذي يضرب به المثل في الأخلاق الرفيعة، وبناء على هذه الصورة المزيفة التي رسمها لنفسه، حالفه الحظ في الاقتران بإحدى بنات عمومته، التي تحمل الكثير من المميزات؛ فهي ذات جمال، ودلال، ودرجة علمية عالية، ووظيفة مرموقة، وبعد الزواج استقل بسكنه مع زوجته.

كان النمر يظهر الود واللطف لأخواته أمام زوجته ليحافظ على الصورة التي رسمها لنفسه، لكن حين لا تكون معه، لا يلقي عليهن حتى تحية الإسلام.

مرت سنوات على زواجه ولم يرزق بذرية، وبعد رحلة علاج طويلة رزق بفتاتين توأم، كان أمام زوجته يظهر بأنه في غاية السعادة، ولكن أمام والدته يظهر استياءه كونه أصبح أبا لفتاتين، فقد كان يريد صبيًا، لأن بعض الأفكار الجاهلية ما زالت عالقة في ذهنه بشأن الفتيات، لكنه تعلق ببناته تعلقًا لا حد له، ظنًا منه أن كريماته مختلفات عن بقية الفتيات، وأنهن سوف يكنّ مصدر فخر له.

استمرت معاملته الجافة لأخواته، ولم يتغير حاله، بل زادت عنجهيته، رغم أنه بعد فترة أنجبت له زوجته صبيًا، عندها بات يشعر أنه يملك الكون بما فيه.

في أحد الأيام نشب خلاف بينه وبين زوجته، فرفع يده يريد ضربها، لكنه تراجع في آخر لحظة بعد أن تذكر الصورة المزيفة التي رسمها لنفسه، فتظاهر بالحكمة والحلم وعمل على إرضائها، لكن بداخله كان يشعر بالحنق، فتوجه إلى منزل والده، لأنه كان يبحث عن أتفه الأسباب ليبرح أخواته ضربًا ليشعر وكأنه ضرب زوجته، فكان له ما أراد، حيث انهال ضربا على إحداهن، عندها تدخل والده وأوقفه عند حده، أخذت أخته بالبكاء بحرقة ورفعت يدها إلى السماء وهي تردد «حسبي الله ونعم الوكيل»، فازداد غضبًا، وأراد أن يكرر هجومه إلا أن والده وقف له بالمرصاد.

بعد مرور يومين تهاجم طفلته ذات السبعة أعوام أحلام مزعجة؛ ترى أن شخصا بهيئة مرعبة يقوم بضربها مرارًا وتكرارًا، ما يجعلها تستيقظ فزعة، واستمرت على هذا الحال مدة شهر حتى تم علاجها بالرقية الشرعية، فشفيت الفتاة.

مرت فترة من الزمن، وما زال النمر مقاطعًا أخته لا يتحدث إليها ويتجاهلها، رغم محاولتها إرجاع المياه إلى مجاريها بمبادراتها الطيبة، إلا أنه كان يزداد تمسكًا بموقفه؛ حتى أنه في يوم وقفة عرفات، قبل الأذان بنصف ساعة وجدته في زيارة لأبيها، فتقدمت إليه ومدت له يدها، لكنه وضع يده خلف ظهره ممتنعًا رغم أنها لم تخطئ بحقه، كان سبب كل هذه القطيعة جملة الدعاء: «حسبي الله ونعم الوكيل»، التي نطقت بها شقيقته عندما أحست بالظلم والعجز، رغم أن هذه العبارة لا تقلق أي مظلوم، فهي ترعب من كان يعلم أنه ظالم.

رغم كل تحذيرات الله غير المباشرة التي كانت تصيب النمر بين الحين والآخر، إلا أنه أصر على أن يكون شخصًا مستبدًا، فقد كان يرى أن مصيبته ابتلاء، ومصيبة غيره عقوبة، يرى خطأه اجتهادًا يؤجر عليه، وخطأ غيره ذنبًا يعاقب عليه.

في ظل هذه المعمعة، كانت هناك سجادات تفترش الأرض، ودعوات تصعد إلى السماء قد لا يكون بينها وبين الله حجاب..

فكما انتهت قصة النمرود ببعوضة، وانتهت قصة فرعون بالماء، وانتهت قصة قارون بالخسف، سينهي الله قصص الباطل بأبسط الأشياء.

أخبار ذات صلة

0 تعليق