فـي مجموعته الشعرية (كلمات نباتية) الصادرة عام ٢٠٢٠م عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء ودار الآن ناشرون وموزعون، يقدّم لنا عبدالله خليفة عبدالله إصدارا شعريا يمزج بين جمالية اللغة والصورة المتشكلة من الخيال الشعري. لقد امتزجت الصورة فـي غير موضع من المجموعة بالألفاظ التي يستخدمها الشاعر تعبيرا عن المقصد الذي ينشده، كما قدّم التعبير الدلالي لمحة عن اشتغال الشاعر على انتزاع الدلالة اللغوية من قاموسها الشعري، مقدما صورة تتعدد بتعدد الألفاظ والمعاني.
يتشكل النص الأول الذي يحمل عنوان المجموعة «كلماتكِ النباتية» وفق ذلك الاشتغال، فنجد النص الشعري مفتوحا على تأويل الدلالات وتقاطعها مع الصورة المتخيلة حتى شكّلت نصا متعدد الصور والتراكيب، نجد التعبير يكشف وفق الخطاب الأنثوي علاقة (اتحاد) و(التصاق) بالآخر.
إن لفظة (الكلمات) المتكررة فـي هذا النص تقابلها كلمات (الالتصاق)، وهنا يسير النص وفق حركة سردية تتمثّل فـي درامية الحركة، والتحوّل من وإلى، ويحاول الشاعر من خلالها السير وفق حركية النشوء والانتهاء؛ نجد فـي السطر الأول مثلا كلمة (تنمو) تحيل على الصغر والبداية، فـيما إنّ كلمة (تحصدينا) فـي السطر الأخير تحيل على النهايات. وبينهما نجد النص يتشكّل وفق حركة درامية معبّرة تجمع بين البداية والنهاية؛ لذا فإن تكرار كلمة (الكلمات) يقابلها حقل من الدلالات التي تساعد على لفظتي (النمو/ والحصاد)، وكأن النص فـي تعبيره يدور بين لحظتين معبرتين لهذه الحياة.
تتكون المفردة الشعرية عندما تقابل مفردة الكلمات لمفردات مثل: (النبات، وتنمو، والحقل، والوردة، والتراب، والبراعم، وتراب الروح، وجدول النسغ الرقيق)، حتى تفاجئنا كلمة الحصاد معبرة عن النهاية الحتمية للنباتات وللكلمات التي تجمع الاثنين.
إن الحركة فـي هذا النص تقابلها حركة مشابهة فـي نصين آخرين هما نص (بيننا هواء طويل)، ونص (رائحة غيابك)، هنا يعتمد الشاعر (التجسيد) لتشكيل دلالتي الهواء والرائحة، وعلى ذلك تأخذ لفظتا الرائحة والهواء شكلا قائما على الأنسنة من تحركها داخل النص، وقيامها بوظائف متعددة من انفتاح الدلالات على التشكيل البصري.
فـي نص (بيننا هواء طويل) يقيم الشاعر مسافة طويلة بين اثنين مستغلا لفظة (بيننا) ومعتمدا على خطاب المؤنث فـي الدلالة (عطركِ، ولستِ، ومجيئكِ)، وبين المسافة التي تتشكل منها تفاصيل يومية بسيطة:
بيننا هواءٌ طويلٌ
سِكَةٌ من المدن والقرى.
فـي الصباحِ
أشمُّ عطرك قادما من بعيد
لستِ غائبة
رائحةُ مجيئكِ كل صباحٍ
تطرقُ بابي
وتدخلُ بسرعةٍ لأنه لا يكون مغلقا.
يسير النص وفق حركة درامية لها تفاصيلها التي تتشكل من خلالها هذه الحركة التي تجسّد حركة إنسانية فـي تفاصيلها اليومية، فالهواء أو الرائحة يتجسد ليصبح ذا حركة مجسمة داخل النص الشعري:
بيننا هواءٌ طويلٌ
وكل صباحٍ
توقظني رائحة عطرك الصباحي
تلك الرائحة النشيطة
تفتح النافذة
تسحبُ الشَّراشِفَ
وتُشعل الموسيقى.
نكهة استيقاظكِ كل صباحٍ
وأنتِ فـي سريركِ البعيدِ
تَعْلَقُ فـي فُرشاة أسناني
فـي صابونة الاستحمام
وفوطة الحمّام أيضا.
بيننا مسافة من العطر ذي الأقدام الرشيقة
وما زلتُ أنتظركِ كُلَّ صباح
وأنسى أنكِ لم تجيئي البارحة
ولا قبلها
وما زلتُ أشُمُّ المسافة بيننا
وأنسى شريط القياسِ والساعةَ
وأنتظركِ.
يتشكّل النص من ثلاث شخصيات تتحرك داخله، فقد أعطى الشاعر لرائحة العطر شخصية ثالثة تقبع بين الطرفـين (المُخاطِب والمُخاطَب)، بحيث يكون للرائحة حركة تُقرّب أو تباعد بين الاثنين، وتجمع فـيها التفاصيل المرتبطة بهما، لقد كان للرائحة حضور قوي فـي دلالات النص وتأثيثه بالغياب تارة وبالحضور تارة أخرى؛ إذ تقوم دلالات الأفعال على تجسيم الرائحة: (توقظ، تفتح، تسحب، وتُشعل).
أما فـي نص (رائحة غيابك)، فهو على ما يبدو نسخة ثانية مشابهة للنص السابق، یستكمل فـيه الشاعر دلالات التجسيد والحركة الدرامية للنص، ويبدو أنه لم يكتفِ بالصور والدلالات المتشكلة فـي النص السابق فأكمل فـي نصه هذا الدلالات مع تأكيده على كبر المسافة بين الاثنين:
المسافة كبيرة جدا
بين دمي المُظلم وحَفْلَتكِ النهارية
أغنيةُ أصابعكِ تنادي من بعيد
وأنا بلا قدمين
أخبئ العصافـير المذعورة فـي دمي المظلم
أقصُّ ريشَ الأناشيد القديمة
وأخبئها فـي صندوق بلا مفاتيح.
سأترك رائحة غيابكِ
تفصد دمي الفاسد
وتفتح بوابة الرُّسُعِ
لجميع العصافـير والأناشيد المحبوسة.
تتضافر اللغة فـي النص مشكّلة حركة درامية تجمع بين الاشتغال الرومانسي وبين الغياب والبعد المتشكل. لقد جعل الشاعر من رائحة الغياب إنسانا ذا مشاعر وأحاسيس، فأعطى للقارئ لمحة درامية فـي النص ليتشكل منها الخطاب الشعري النابع من علاقة طرفاها اثنان يحاولان الاقتراب أكثر من بعضهما. نقرأ ذلك فـي المقطع الأول مثلا:
رائحة غيابكِ،
استيقظت البارحة
فـي منتصف الليل
رائحة غيابك
وعَبثَتْ بالستائر الخفـيفة
جَلسَتْ إلى جواري على الأريكة عند منتصف الليل
ونَشّفَتْ أُذن البيت
من الأصوات كلها
حرّت ستائر «الشيفون» الخفـيفة
وسَكبَتْ مطرا خفـيفا غامضا تحت سقف البيت
وأنا واجمٌ
مثل صَدَفَةٍ لَفَظها البحر على الرمل
ولن تذوق البحر ثانية.
يسقطُ المطرُ
تحت سقف البيت
خيوطا واهية تربط السقف بالأرضية
وأنا واجمٌ
عيناي تُقَشِّرانِ رائحة غيابكِ عن ثمار المطر اللامعة.
كذلك فإن الشاعر عمد إلى تداخل الصور وتعدّدها مما أعطى النص تعبيرا متنوعا فـي استعمال اللغة:
الستائر الخفـيفة
تهسهسُ
مثل لصوص يتآمرون فـي منتصف الليل
خُيوطُ المطر الواهية
تُخَيطُني فـي سَجَادَةِ المَطرِ والهواجس
وأنا منقوش وسط السجادة العمودية
صخرة جامدة وسط البحر
لا أرى غير عزلتي
واضحة مثل سحلية تقف وحدها على منتصف جدار
والستائر الخفـيفة ما تزالُ تَرتَعِشُ
كغصن شجرة فـي نسيم منتصف الليل
إن لرائحة الغياب مقدرة على الغوص فـي تفاصيل المشاعر وتعلن عن نفسها أنها لغة صادرة من الذات، وتعبير صادق من المشاعر، ودلالة تتركّب منها دلالات وصورٌ مختلفة وهذا ما عمد الشاعر إلى توظيفه فـي النص محملا النص تأويلا شعريا قائما على التخيل والرمز حين يقول:
رائحة غيابك حائكة بارعة
لسجاداتِ المَطرِ والرِّجالِ
رائحة غيابك عالقة فـي بطن إبريق الشاي
وفـي حواف الملعقة المحفوظة فـي الرّفٌ العـالي
وفـي الأواني التي فـي الروح.
0 تعليق