تتعدد مصادر المعرفة في العصر الحديث بشكل مستمر ومتطور، فمن الإنترنت بنفسه وصولا إلى الذكاء الاصطناعي، وبتعدد هذه المصادر تتعدد كذلك طرق وصولها للمتلقي، ومن ضمن هذه المصادر البودكاست.
للبودكاست ثورة يُمكن ملاحظتها بسهولة على الإنترنت، إذ إنه أصبح مصدرا مهما للمعرفة، والسبب في حدوث الثورة هذه هو أن المعرفة منه يُمكن تحصيلها أثناء ممارسة أي نشاط يومي اعتيادي، إذ إن الاستماع لحلقة بودكاست لا يتطلب ضرورة البقاء معها في جلسة مع دفتر وقلم، بل يُمكن الاستماع إليه أثناء المشي أو الرياضة أو في السيارة أو غير ذلك، مما أدى بالضرورة إلى أن طول الحلقات لا يشكل عبئًا مضافًا للمستمع أو تقلل من نسبة الاستماع أو المشاهدة، لأن الحلقة يُمكن الاستماع إليها في طريق لمدة ساعتين مثلا، ويمكن التوقف في أي وقت عن الاستماع والعودة في وقت لاحق، ولذلك فإن من أكثر الحلقات استماعا في البودكاست العربي -إن لم تكن أكثرها- حلقة ياسر الحزيمي في بودكاست فنجان وصلت مدتها لثلاث ساعات مع نسبة مشاهدة -في اليوتيوب فقط- وصلت إلى 137 مليون مشاهدة.
هذه الثورة التي يحدثها البودكاست يجعل منه منصة معرفية مهمة، إذ إن كثيرًا من البرامج تناقش قضايا أو شخصيات أو غيرها من المفاهيم المعرفية بصورة مبسطة وسلسة يُمكن من خلالها تحصيل القدر الأكبر من الفائدة، خاصة مع عدم الحاجة فيه إلى الشدة التي تتطلبها ضرورات طلب العلم، لذلك فإن للبودكاست دورًا في انتشار المعرفة المتخصصة بطريقة بسيطة وسهلة، تشبه في ذلك كتب «البوب ساينس» التي تحاول تبسيط المعرفة الفيزيائية مثلا لغير المتخصصين، وهذا ما يُمكن أن يفعله البودكاست، فتجد أن استضافة متخصص في أمر ما ومناقشة قضية معينة بإمكانه أن يخلق أولا معرفة وخلفية عامة عن تلك القضية، وثانيا أن يفتح الباب للبحث فيها والتعمق لمن أراد.
بل يُمكن أن يكون البودكاست مرجعًا أيضا ومؤرخا في نفس الوقت، فأما المرجع فلأن العودة لحلقة البودكاست واستنباط الموضوع منها أو ما يتوفر فيها من إحالات لمراجع تعتبر طريقة أسهل، وأما التأريخ فلأن بعض حلقات البودكاست توثق لشخصيات أو أحداث معينة يُمكن الاستناد عليها في مرحلة قادمة لملء فراغ تاريخي أو تعميق نقطة ما في السياق العام.
وفي هذا السياق، يُمكن أن أذكر بودكاستين عمانيين لهما تأثير ملموس في صنع المعرفة العامة، واعتبارهما أنموذجا لا حصرا، أما الأول فبودكاست «مصعد»، يركز بودكاست مصعد على التاريخ العمانيّ الحديث، وتمتد حلقاته لتصل إلى خمس ساعات في بعض الأحيان، لكن على الرغم من ذلك فإن المستمعين يتفاعلون مع الحلقات باستمرار، بسبب ارتباطها بهم وبتاريخهم، وفي أحيان تتباين وجهات النظر حول ما يُطرح فيه، مما يخلق نقاشًا صحيًّا حول بعض الروايات التاريخية التي بقيت لمدة طويلة دون نقاش أو نقد.
أن تتحرك المياه الراكدة فهو أمر جيد، لكن أن تتحرك من خلال مصدر يصل إلى الجميع بطريقة بسيطة، فهو أمر بحاجة لدراسة والتفات، ومن هنا يُمكنك أن ترى تأثير البودكاست على الوعي والمعرفة وصناعتهما. أما الثاني فبودكاست «قفير»، الذي يختلف محتواه ويتنوع، لكن في غالبه يركز على شخصيات عمانية ومحاولة إظهارها للعلن من خلال نوعين من المحاورة، إما محاورة الشخصية والمسيرة، وإما محاورة موضع الاهتمام، وعلى خلاف المثال الأول، فإن الحلقات هنا لا تزيد عن ساعة في الغالب، ولا تكون في كثير من الأحيان معمقة وإنما تناقش -باستعارة دينية- «ما لا يسع جهله»، وهو أمر جيد، لأنه يفتح خيار أن يعطي المستمع الخلفية المناسبة حول الموضوع ثم يبحث بنفسه فيه ويعمق معرفته، وأيضا يفتح خيار الاستماع لحلقات قصيرة نسبيا. ولذلك تجد المواضيع والشخوص في هذا المثال مختلفون ومتنوعون لكنهم يقعون غالبا في ذات الإطار باعتبارهم عمانيين، لكن بأفكار وشخصيات وآراء مختلفة.
من خلال هذه النماذج، يُمكن القول أيضا إن البودكاست قادر على أن يشكل الرأي العام، من خلال النقاشات التي تتولد مما يطرح في الحلقات وبالتالي فإن الرأي العام قد يتوجه باتجاهات مختلفة من خلال هذه النقاشات، لكنه في ذات الوقت يفتح مساحة للحديث حول المسكوت عنه اجتماعيا أو تاريخيا، وكذلك يعمق من النقاش في مسائل مختلفة، مما يعزز التفكير النقدي والبحث العلمي -وإن كان بمستوى طفيف- في المجتمع، مما يجعل هذه النقاشات بيئة صحية ومحفزة.
هذا أيضا ينطبق على دور البودكاست في زيادة الوعي بالقضايا الملحة، سواء القضايا الاجتماعية أو الفكرية أو السياسية أو غيرها، ولعل الشاهد على مثل ذلك، الحراك (البودكاستيّ) الذي حصل بعد السابع من أكتوبر، فإن منصات البودكاست لم تتوقف عن نشر الحلقات واستضافة الأشخاص المختلفين والحديث حول الأحداث في المنطقة، من جوانب مختلفة، مما عمق عند كثيرين المعرفة بالقضية الفلسطينية وجوانبها المختلفة، فالحلقة التي نشرتها منصة أثير مع المفكر الفلسطيني منير شفيق على سبيل المثال أعطت تاريخا للنضال الفلسطيني وبعض جوانبه المتعددة.
ومن القضايا الملحة -على سبيل المثال أيضا- مسألة التخطيط الحضري وإعادة تشكيل المدينة، وقد نوقش مثل هذا مثالا في حلقة مع علوي المشهور، بعنوان «المدينة والاستدامة في الخليج العربي» في بودكاست داخل الصندوق، وفي هذا السياق أعلن مؤخرًا عن بودكاست عماني جديد، وهو الأنموذج الثالث الذي آخذه في هذا المقال، يتناول قضايا التخطيط الحضري والعمران وما يتعلق بها من مواضيع مثل أنسنة الأحياء وإعادة تشكيل المدن بما يتناسب مع الإنسان لا مع السيارة، وكذلك مسائل العودة للحالة الاجتماعية الأليفة التي كانت تعيشها الحارات القديمة وفُقدت مع التخطيط الحضري العشوائي والممتد إلى مساحات شاسعة كما حدث في المدن العمانية مثل مسقط، وهو بودكاست «حارتنا». من خلال التركيز على هذه القضايا، يحاول بودكاست حارتنا في حلقات قصيرة أن يشكّل الوعي بأهمية معالجة المدينة وأنسنتها وجعلها قابلة للعيش الإنساني. مما يُمكن أن يشكّل في النهاية تقبلا اجتماعيا لقرارات فردية معينة مثل التخلي عن السيارة واستخدام النقل العام عند توفره بشكل يتناسب مع متطلبات الجميع.
يمكن تقييم تجربة البودكاست في عمان عموما، على أنها تجربة نامية وتتطور بشكل سريع، من خلال الأدوات المستخدمة أو المواضيع المطروحة، فتجد تنوّعًا جاذبًا فيها، من العام إلى التخصصي، لكن فيما أرى يُمكن أن تكون هذه التجربة أكثر عمقًا إذا تم التسويق لها بشكل صحيح وأكثر جاذبية لتصل إلى دول الخليج والمنطقة العربية مما يُمكن أن يعود بآراء نقدية سواء إيجابية أو سلبية حول الموضوع أو صناعة البودكاست نفسه مما يعمق الحالة المعرفية ويشكل حالة نقدية يُمكن من خلالها التطور والوصول إلى تجربة أكثر عمقًا.
في الأخير، يُمكن القول إن البودكاست في هذه اللحظة الراهنة يشكّل تأثيرا كبيرا على الوعي والمعرفة، بل يُمكن أن يكون أداة لصناعة القرار من خلال تأثيره على الرأي العام والحالة النقدية التي تظهر بعد صعود حلقات معينة يكون لها حظ المناقشة، وعلى الرغم من أن هذه الحلقات قد تكون طويلة إلا أنها تجد رواجًا كبيرًا بين مستخدمي الإنترنت، لذا فإن هذا التأثير يُمكن استغلاله لتنمية الحالة النقدية المجتمعية والوعي الجمعي، كما يُمكن أن يكون رافدًا ثقافيا ومعرفيًا إذا تم الاهتمام به بشكل يضمن جودة المحتوى وجودة الصناعة.
0 تعليق