زرتها للمرة الأولى في صباح شتوي هادئ، كان الطريق إلى قرية «حدش» بولاية نخل جزءا من جمال الرحلة، حيث المنعطفات الجبلية والمناظر البانورامية التي تطل على الوديان الخضراء تجعل من كل كيلومتر يقطع هو مغامرة في حد ذاته، ومع كل منعطف تقترب أكثر فأكثر من ذلك الجمال الخالص الذي تلتقي فيه الأرض بالسماء.
الطريق ليس مجرد ممر يوصلك إلى «حدش»، بل هو جزء من التجربة نفسها، حيث ترافقك أشجار العتم والبوت إلى واحة السكينة والجمال.
قبيل الوصول إلى القرية يطل برجها المهيب متربعا كأول المستقبلين لزوار «حدش»، كما كان ذات يوم أول المدافعين عنها أمام الغزاة.
حينما اقتربت من القرية بدا المشهد وكأنني أدخل عالما من الغموض والسحر! القرية تغفو تحت غطاء من السكون، لا شمس تشرق في الصباح كما هو حال العالم من حولها، بل برد منعش يلفح الوجوه وضباب يعانق القمم، حتى خيل إليّ كما لو أن الشمس نسيت أن تشرق عليها.
حينما وطئت قدماي تلك البقعة الساحرة شعرت كما لو أنني دخلت عالما من الجمال البكر الذي تتناغم فيه الطبيعة مع عبق التاريخ.
الهدوء كان سيد المكان، لا تكاد تسمع سوى همس الرياح الباردة وحفيف أوراق الشجر وصوت جريان الماء الذي يشق طريقه بين المدرجات الزراعية، السكون العميق يغمر المكان إلا من بعض الأصوات الخافتة للأهالي هنا وهناك وكأن القرية تستيقظ ببطء مستمتعة بصباحها الشتوي الهادئ.
مع اقتراب ساعات الظهيرة بدأت أشعة الشمس تغزل - بخجل- خيوطها الذهبية على قمم الجبال الشاهقة، شمس الشتاء هنا زائر خفيف، تشرق على مهل وتغرب على عجل، لا يكاد يأتي وقت العصر حتى تأذن بالرحيل مرة أخرى! يستقبلك أهالي القرية بابتسامات دافئة وحديث لطيف كما لو أنهم يستقبلون فردا من العائلة.
في كل زاوية الكل يدعوك لتناول «الفوالة»، يشاركك فيها حكايات الأيام الخوالي وتفاصيل الحياة البسيطة التي تعيد للروح سكينة الماضي وإحساسا بالانتماء.
في تلك الأجواء الباردة التي تحمل معها روائح الأرض الرطبة لم يكن هناك شيء يضاهي ارتشاف القهوة العمانية مع الأهالي وتجاذب الأحاديث البسيطة مع صوت الحطب المتقد في المدفئة الذي يضيف إلى الأجواء إحساسا عميقا بالراحة.
كانت الإقامة في فندق حدش السياحي عبارة عن مزيج من الراحة والفخامة، الفندق بأكمله عبارة عن إطلالة مفتوحة على البساتين الخضراء والمدرجات الزراعية، كذلك فإنه يوفر تجربة طعام استثنائية يمكن معها تذوق أطباق محلية محضرة من خيرات الأرض ومحاصيلها.
يمنح الفندق السائح كذلك باقة من خيارات الترفيه والمغامرات التي تجعل من الزيارة تجربة لا تنسى، فمن التنزه في البساتين والمشي الجبلي إلى ركوب الدراجات الهوائية وتسلق الجبال والنزول بالحبال مع فريق مختص، كلها خيارات تتيح الاستمتاع بتفاصيل الطبيعة المتفردة للمكان.
عندما عدت لزيارتها ثانية في الصيف كان الأمر مختلفا تماما، كما لو أنني دخلت في آلة الزمن، العالم هنا غير مألوف، لا أثر لحرارة الصيف الحارقة، بل نسيم بارد منعش ينساب بين الحقول الخضراء محملا بروائح العنب والمشمش والرمان، كيف لا وهي توأم قرية «وكان» الشهيرة اللتين خرجتا معا من رحم الجبل الأخضر.
في رحلة الصيف تجتمع روعة الطقس مع كرم الطبيعة ومتعة التذوق.
قطف فواكه الرمان والعنب كان التجربة الأكثر متعة في تلك الرحلة، حيث تمتزج فيها الحواس مع خيرات الأرض، تستطيع أن تتلمس الفاكهة في أمها، تشتم عطرها، تتذوق نكهتها، تنصت لصوت الطبيعة من حولك، لحظات تشعرك بالارتباط العميق بالأرض، تصبح وكأنك جزء من دورة الطبيعة، تستمتع بعطائها، تغادرها وأنت تحمل معك طعمها وذكرياتها في قلبك.
«حدش» تشعر فيها كزائر كما لو أن الزمان توقف ليمنحك فرصة أن تعيش لحظات من البساطة والسلام، حيث يمكنك أن تجد نفسك من جديد، هي كالملاذ الساكن الذي تستطيع أن تهرب إليه من صخب المدينة رغم اتساعها إلى رحابة القرية رغم ضيقها، تشعر بأن كل لحظة قضيتها هناك كانت رسالة حب خطتها أنامل الطبيعة على صفحات روحك.
كلما أسترجع ذكريات زيارتها يغمرني أثر دافئ من الود والحنين، فقد كانت بمثابة ملاذ يأسر الروح بسكونه وتواضع أهاليه، كل زاوية فيها وكل نسمة هواء تخبرني بقصة حب عميقة للأرض والمكان، لتظل تفاصيل تلك القرية الساحرة صوتا خافتا في الروح ينادي بالعودة إليها كلما اشتد ضجيج الحياة.
0 تعليق