«على العاقل، ما لم يكن مغلوبًا على نفسه، ألا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يُفْضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بُلْغة».
لم أجد أفضل من هذا الاقتباس، من كتاب «الأدب الصغير» لابن المقفع، كي افتتح مقالي هذا، أملا بأن يوفقني الله في إيصال رسالتي حول ما يثار من جدل حول ما يتم تقديمه من دراما تلفزيونية، على وجه الخصوص في شهر رمضان.
كُتب الصيام علينا، كما كتب على الذين من قبلنا؛ فالصيام إذن حدث ديني في المقام الأول، وهو ملجأ معاصر للاستشفاء النفسي والجسدي. ومن هنا، فقد كان لهذا الفعل الروحي أثر عميق؛ فما أن يقترب الشهر الفضيل، حتى تشعر بشيء من السحر في مشاعر الناس، وكلماتهم. ثمة تأثير نفسيّ للصيام، يجعل وجوه الناس مشرقة، رغم ما قد يعانيه الذين يعملون في أعمال شاقة من العطش والتعب. لذلك يمكن قراءة «للصائم فرحتان» في سياق البهجة القلبية التي نشعر بها في أنفسنا، وفيمن حولنا، لذلك فإن الصائم يكون مهيئا للفعل الطيب.
لذلك، فإنه، ومن خلال تقصي التاريخ الاجتماعي والثقافي، سنجد أن الاحتفال برمضان، هو اهتمام أصيل ينبع من النفوس، وهكذا أصبح رمضان حالة روحية، أثرت على تفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية
من هنا، فإن الاحتفال برمضان وتعظيمه يأتي في سياق فهم الآية الكريمة «وَمَن يُعظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنهَا مِن تقوَى الْقُلُوبِ» الآية 32 من سورة الحج. لقد بدأ ذلك في العهد الإسلامي في مدينة رسول الله، المدينة المنورة، كحاضرة عربية أولى في عهد صاحب الرسالة الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد كان شهر رمضان حسب السيرة النبوية شهرا مختلفا، وقد انتقل هذا الشهر بثقافته إلى الحواضر العربية فيما بعد. وقد كان لكل حاضرة طريقة إحياء هذا الشهر، روحيا وإنسانيا، وصولا إلى أن أصبح الشهر يشكل علامة فارقة، دفعت مراكز المدن بشكل خاصة إلى الاحتفال الخاص به، على المستويين الرسمي والشعبي.
من المدينة إلى دمشق فبغداد فالقاهرة وعواصم وحواضر أخرى، صار لرمضان حالة اجتماعية ثقافية، انعكست على الأسواق، والتي ارتبطت بالازدهار. وفي ظل إحياء العبادات ليلا، فقد نشطت المدن ليلا خاصة في البيئات الحارة، وفي الأوقات التي يحضر فيها الشهر الهجري في فصول الحرّ. في هذا السياق، فقد بدأت ظواهر اجتماعية بالحضور، مرتبطة باتجاهات العامة للتجمع، للاستفادة من الهدايا. وهنا قد وجد أصحاب الهوايات الفنية في الليل مجالا لإمتاع العامة؛ فقد ارتبطت الأعياد الدينية والطبيعية والقومية بفعاليات الفرح التلقائية، خاصة في ظل الزيادة السكانية. ولعل المدن الكبرى قد شهدت مثل تلك النشاطات الفنية التي ارتبطت بالحياة الروحية، فكانت مشجعة عليها من باب تلبية حاجات الإنسان الروحية والاجتماعية. ولعل مدينة القاهرة القديمة، بما حفلت به من تاريخ اجتماعي خاص، قد شجعت المستوى السياسي لمثل هذه الاحتفالات، لتنشيط المجتمع، وتقوية العلاقة بين الأهالي وأهل الحكم. وقد تفنن أصحاب المواهب في عرض هواياتهم، التي صاروا يطورونها، بسبب التنافس من جهة، وبسبب تسويق السلعة الفنية من جهة أخرى.
ومع التقدم في وسائل الحياة التكنولوجية خصوصا التلفزيون، انتقل جوهر تلك النشاطات من الشارع إلى الشاشة الفضية، منذ تأسيس التلفزيونات العربية، ومنها التلفزيون العربي في مصر، وقد أسهم عدد السكان في إقبال التلفزيون على إنتاج الأعمال الفنية.
بدأت الأعمال الفنية بالتطور منذ عقد الستينيات، وقد انتقل الاهتمام الديني والتاريخي إلى الدراما التلفزيونية، ثم بدأت الحياة السياسية الحديثة والمعاصرة تجد طريقا في الإنتاج الفني، خاصة ما يتعلق بالتحرر من النفوذ الأجنبي في بلادنا. وهكذا فقد اقترب الإنتاج الدرامي من التعبير عن الحياة الواقعية بشكل عام. وقد وجدت تلك الأعمال إقبالا من الجمهور.
وقد ظل هذا الأمر سائدا حتى آخر عقدين، بشكل عام، حيث إنه وفي ظل انتشار الفضائيات واقتصاد السوق، ورغبة المنتجين للسلع في الدعاية لمصانعهم، فقد زاد الإنتاج الدرامي ودخل حالة التنافس، وليس هذا فقط، بل صار المنتجون يطلبون الأعمال الفنية المكونة من 30 حلقة.
ومع تغير اتجاهات موضوعات الدراما، وزيادتها بل والمبالغة بها (77 عملا دراميا في رمضان الآن)، فقد بدأ المجتمع يشهد حالة جدل باتجاه ناقد ونقدي، وقد ساعد النقد لتلك الأعمال، كونها تراجعت عن المستوى شكلا ومضمونا.
جزء من هذا الجدل تعلق بسطو الدراما على الحياة الروحية، وهكذا فصرنا نشهد تغيرا في سلوك المواطنين، من حيث إقبالهم على تلك الأعمال الفنية، والتي صارت تخرج عن الحدود، خاصة تلك الدراما التي تشرعن السلوكيات الخارجة عن العادات والتقاليد والقيم.
يأتي فهمنا للاحتفال بشهر رمضان من باب تشجيع الثقافة الرمضانية، وتأكيد على الحياة الروحية، بالاعتماد على مكونات المجتمع، وما فيه من وسائل إبداعية.
ولعل متابعة مضامين المسلسلات منذ عقد ونصف تقريبا، وكيف صارت تنحى منحى اجتماعيا بعيدا عن التحولات الاجتماعية والسياسية. وهو منحى فردانية يتعلق بتوترات الشخصيات.
لقد بالغ المخرجون في إنتاج أعمال تعتمد على جذب المشاهدين للشكل، وذلك باستغلال تقديم الجسد الأنثويّ وملابس الموضات المعاصرة. ومن هنا، فقد صارت الدراما متناقضة مع الحياة الروحية، بل وقد سطت على الوقت المخصص للعبادات.
هي حالة من التوازن والاحتفال المعظم لشعائر رمضان إلى حالة الاختلال الفكري والثقافي، بحيث صار جزءا منها انتهاكا لرمضان.
وللحق، فما زال هناك، وإن كان بشكل محدود، من يقدم دراما رمضانية جادة مضمونا وشكلا بالانتباه لتراكم الدراما في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، تلك الدراما التاريخية والدينية، وتلك التي تخص التحرر السياسي والتحولات الاجتماعية، معطية المشاهدين مجالا للتوازن الروحي والثقافي والفني.
لقد كانت الدراما جادة مجمعة للأبناء العربية، كما هو شهر رمضان، ولم تكن سهام النقد موجهة لها. أما حين أصبحت تميل إلى السطحية، والاهتمام بالخلاص الفردي، فقد انفض الجمهور من حولها زاهدين بها، والتي زادت كما مستفيدة من حالة الدعاية والإعلان.
والآن في رمضان هذا، وفي المستقبل، فإننا نعيد الأمور إلى نصابها، في الاهتمام برمضان روحيا وثقافيا وفنيا معا، بجعل المضامين جادة ونبيلة، تسعى إلى الارتقاء بالجمهور لا الهبوط به.
إن رمضان الذي يعبر عن الصوم، أحد أركان الدين، لا يجب أبدا أن يكون الاحتفال الفني به، مناقضا لهذا الدين المؤسس للأخلاق الحميدة، التي تصون الأمة وتحفظها، بعيدا عن تقليد الغرب والشرق، بما لا يليق بتقاليدنا وقيمنا.
الثقافة والفن لها رسالة سامية، تنسجم مع مقاصد الشريعة، وهي لها أسلوب خاص أدبيا وإنسانيا، من خلال السرد المشوق. وبذلك، فإننا نخفف الفجوة الحاصلة اليوم بين الدين والفنون، بالاستناد إلى حضارتنا التي كان فيها العلماء والفقهاء أدباء، وموسيقيين ورسامين وساردي قصص وحكايات.
والإنسان المسلم والصائم، هو إنسان من نفس وروح، يلزمه ما ذكر ابن المقفع في بداية المقال، فليكن إذن ما يقدم من فنون درامية مما ذكره عن تلك «الساعة التي يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر».
0 تعليق