الاجـتـمـاعـي إذ يـخـلَـع عليه السَـمـت الـديـنـي - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يـعرف دارسـو تاريخ الأديان والأنـثـروپـولوجيا الـديـنـيـة أن مساحـات التـداخـل بين الـديـنـي والاجـتـماعـي في المجتـمعـات والأديـان واسعـة بـما يكـفـي لملاحظـة كيـف تـدخـل الخبـرةُ الإنسانـيـة في تـكـوين التـجارب الـديـنـيـة في التـاريخ، وكيـف يـلـتـقي المطلـقُ الـديـنـي والنسـبـيُ البـشري في صـياغة أنظمـة الأحكـام الـديـنـيـة للنـاس والمجتـمـعات. يَـتَـبَـرَر هـذا التـقـاطُـع بين الـديـنـي والاجتمـاعـي بـما لا حصـر له من الأسباب والعـوامـل، نكـتـفـي بالإشـارة السـريـعة إلى ثـلاثـة منـها:

أولُـهـا مكـانـةُ العـقـل والمصـلحـة في منـظـومـة المـوارد المتـاحـة لـدى أي اجـتـمـاع ديـنـي؛ إذ هُـمـا اللـذان يـقـع عليـهـما عـبءُ النـهـوض بالتـشريـع للجـمـاعـة الـديـنـيـة، في حـال وجـود فـراغ تـشـريـعي، انـطـلاقـًا من أُسُـس يـصـرح بـهـا الوحـي أو يَـحـمل على النظـر إليها بعيـن الاستحسان والقـبول من قـبَـل الجماعة المؤمنة بـه. معنى هذا أنه مع انقطاع الوحي وانقضاء النـبـوة، في أي ديـن، لا يبقى للجماعـة الاعـتـقاديـة إلا أحـد سبـيـليـن - أو هُـما مـعـا -: الرأي ومصـلـحة الجماعـة؛ لذلك عُـدَ الأخيـران -في الأديـان جميـعـها- في جملـة مصادر الأحكام الـديـنـيـة. إن المكـانـةَ تلك هـي ما يـفـسـر لـماذا نُـظـر إلى العلـمـاء، دائـمـا، بوصـفـهـم مؤتَـمَـنيـن على رسالات الأنبـيـاء؛ إذ هُـم، أكـثـر من غيـرهم، مَـن يـدركـون مـقاصـدها، وأكـثـر من يسـتـخرجـون مـن مبادئـهـا الثـابـتـة أحـكامَ الوقـت المـتـغـيـرة للإجـابـة عـن إعـضـالات واقـع منـهمـرة باستمـرار.

وثـانيـهـا أن النـص يـقـتـرن بالتـأويـل ويـعـتـازُه، حُـكـمـا، ويـتوقـف العـلـمُ بـه عليـه. لذلك كـان في كـل ديـن فـقـه بذلك الـديـن (= العـلـم بالمعنـى العام وليس عـلـم الفـقـه حصـرا)، وكـان يُـنـظَـر إليـه - وما يـزال - بـوصـفـه جـزءا من الـديـن. نعـم؛ إنـه عـلـم بشـري وليس مـن الوحـي، عنـد المؤمـنـيـن كـافـة، غـيـر أن أحـكـام الـديـن: في العبـادات والمـعـامـلات، لا تـكـتـمـل إلا بـه نظـرا إلى أن المنصوص عليه من الأحكام محدود، بينما الحوادث والواقعات لا متـناهية. هكذا يدخل الفـقـهُ البشري (النسـبي) في تشكيـل المنظـومة الاجتماعيـة الـديـنـيـة التي يُرسي المطلقُ الـديـنـيُ أساساتـها بالنـص التأسيسي وتعاليـم الأنبياء.

وثالثها أن التـقاطُع بين الـديـنـي والاجتماعي، المتعالي والإنساني حاصل بقـوة حقائـق الـديـن نفسـه؛ حيث الـديـنُ مجعـول لخدمة الإنسان لا العكـس. يتميـز الإنسان، في الأديان جميـعـها، بالنـقـص وبحـال الاحتيـاج إلى غيـره لقيام أمـره، بيـنما يتـسـم اللـه بالكـمـال المطلق وبالغـنى عـن غيـره بما في ذلك الإنسان. لذلك أتـت الأديـانُ - التـوحيـديـة على الأقـل - تـقـدم نفسـها مسـلكـا حياتـيـا وروحـيـا لخـدمـة مَـن يحتـاج إليـها: الإنسان، فـكان من عاديـات الأمـور أن يـقـع، لـهـذا السـبب، الكـثيـرُ مـن التـداخـل بين المتعالي والإنساني. آيُ ذلك ما احتـلـتـهُ فكرة المصلحة في الأديان والفكر الـديـنـي؛ فحيثما كانت أهداف الأديان جـلـبَ مصالح الناس ودفـعَ المضار، كان مستَـبـدَهـا استدخال مبدئـها في الفكـر الـديـنـي التـوحيـدي (مبدأ المصالح المرسَـلة في الفـقـه الإسلامي مـثـلاً).

في ضوء العـوامل السابقة، يسـهُـل إماطـةُ اللثـام عن ظواهـر عـدة، في تجارب الأديان، لا تُـفـهم لدى مَن ينظرون إلى الأديان من حيث هي نصـوص وتعاليم، حصـراً، لا من زاويـة صيـروراتها وتجـسُداتُـها الاجتماعيـة في التاريخ. أهم هذه الظواهر المشاركةُ الإنسانـيـة في بناء الوعي بالـديـن وفي هنـدسة الحياة الـديـنـيـة ومنظومـة أحكام الـديـن. معنى ذلك أن الانـحـكام الجماعي بالـديـن لم يكن، في تاريخ الأديان، انحـكامـا بـالمنصوص عليه في تعاليـم الـديـن، فحسب، بل كان - وفي المعظم منه - انحكاما بالمتـقـرر من آراء المفـسـرة والفـقهـاء واللاهوتـيـيـن في الـديـن؛ هذه التي لا تعود محض آراء، بل تصير أحكاما واجبة الاتباع على المؤمنين. هذا ما يفسر ظاهرة تعدُد المذاهب والمدارس الـديـنـيـة في الـديـن الواحد بتعـدُد رؤسائها أو أئـمـتـها وتَـبـايُـن مقـالاتهم؛ وهو ما يضـع - في الوقـت نفسـه - حـدودا متواضعـة لفكـرة الإجماع في كـل ديـن واجتماع ديـني لامتناعه - بل لاستـحالـتـه - ويفرض الحاجةَ إلى الاعتياض عنه، في تلك الأديان، بفكرة أقـل عسرا (ولكنها ليست أكثر إمكانا) هي: إجماعُ علماء الـديـن، أو أهـل الحل والعـقـد، كما سُـمُـوا في الفـكر الإسلامي.

في وسعنا أن نأخذ مثالـين سريـعيـن لبيان علاقات التـخلُـل والتـلـبُس التي تقوم بين الاجتماعي والـديـنـي: أولهما في التـشريع الـديـنـي والثاني في أنـثـروپـولوجيا المجتمعات الـديـنـيـة؛ فأما في التـشريع فـذلك يـتـمـثـل في أن الكـثيـر من الأحكـام الشـرعيـة في الأديان لم يكـن مَـأتـاهُ مـن نصوص الـديـن، بل من العُـرف الاجتماعي السائـد والمعـهـود في بـلـد والذي يمـتـد زمـنـا إلى ما قـبل قيـام الـديـن نفسه. ولعل في الفـقـه الإسلامي خـيـرَ مثـال لذلك الاستـدخال المباشـر للمألوف والمشهور من العوائد الاجتماعيـة في جملة موارد التـشريع الـديـنـي. وهذا ما يـفـسـر تعـدُدَ مـذاهـب الفـقـه واخـتلافـها في الأخذ بالمعهـود والمأثـور من العوائـد. وأما في الحياة الـديـنـيـة فيـنـبـهـنا الـدرس الأنـثـروپـولوجي للـدين أن الكـثـير مما عُـومل في الحياة الاجتماعيـة للمؤمنـيـن بوصفـه شـأنـا ديـنـيـا، إنـما هـو من المـقـدَس الاجتماعـي الموروث، المُـحـاط بالكـثـيـر من الحُـرم الجمـعـي والسابـق وجـودا للـديـن نفسـه، ولكنـه المـقـدس الذي خُـلـعَـت عليه أرديـةُ الـديـن فـشُـرعـن ثـم صار يُـدرَك بـوصـفـه شـأنـا ديـنـيـا.

أخبار ذات صلة

0 تعليق