مجلس استشراف المستقبل.. هل بات ضرورة؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يسود المشهد العالمي وتيرة متسارعة من التغيرات المتقاطعة؛ حيث لكل حدث أيما كان سياقه اقتصاديًا أو سياسيًا أو عسكريًا أو طبيعيًا تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على مختلف أنشطة الوجود الإنساني. تمتاز بعض الأحداث بمقدار كبير من الغموض وعدم القدرة على التنبؤ، وليس أدل على ذلك من الحالة السياسية والعسكرية الراهنة لأحداث الشرق الأوسط، حيث لا خيط رفيع يمكن الإمساك به للتكهن بمسارات الأحداث، أو مآلاتها، أو نقاط الانتهاء التي يمكن أن تتوقف عندها. هذا يحدث أيضًا بشكل أو بآخر في بعض القضايا الاقتصادية، وبعض القضايا الطبيعية والمرتبطة بشكل كبير بقضايا تغير المناخ واحتمالات الظواهر الطبيعية. عوضًا عن ذلك هناك جوانب عديدة غير مدركة فيما يتصل بما يمكن أن يصل إليه الفتح التكنولوجي، وما يمكن أن تفعله الآلة في مقابل القدرات البشرية، وهناك قدر كبير من الغموض في فعل البشر أنفسهم، وفي حركة المجتمعات، وفي الاتجاهات الجديدة التي تقودها المجتمعات في مقابل فعل الحكومات.

نحن إذن لسنا أمام عالم يتغير بسرعة، بل أمام تأريخ جديد للعالم يصعب القبض على معطياته وسيناريوهاته، وهذا بدوره يجعل الحكومات أمام تحد مهم في تدبيرها للمستقبل والحاضر على حد سواء؛ فأصبحت الرؤى والخطط طويلة المدى اليوم رهن المراجعة الدورية والتبديل والتعديل المستمر جراء تداعيات هذا التغير، وأصبح المحك اليوم في دور الحكومات هو مدى قدرتها على التخطيط الاستباقي، والانتقال في الآن ذاته من استشراف المستقبل بمفاهيمه التقليدية، إلى الاستشراف الاستراتيجي للمستقبل، وهو الوضع الذي تكون فيه الدولة ليست مجرد متلق/ متأثر بالمتغيرات، باحث عن الفرص، وإنما تكون من صناع أجندة المستقبل، ومن الفاعلين الرئيسيين في تحديد خرائطه ومساراته.

هذا الانتقال يتطلب من الدولة مجموعة من الممكنات، وكذلك الإرث على مستوى الفكر الاستراتيجي وعلى مستوى المساهمات العلمية، والخبرة الممتدة في التخطيط الاستراتيجي، والقدرة على الاستشعار بناء تجربة الماضي وفهم محكات التغير الراهنة. وفي سبيل ذلك أصبح اليوم وجود نظام متكامل للتهيئة للمستقبل (Ecosystem) ضرورة وطنية قصوى، ونقول نظام للتهيئة للمستقبل وليس فقط لاستشرافه؛ ونقصد الأدوات والممكنات التي تستطيع من خلالها الدولة تحويل استشعارها ورصدها للإشارات المستقبلية إلى نظم وسياسات وإجراءات تكيف، تمكنها من الاستعداد الجاد للتعامل مع الواقعة المستقبلية، واستثمار الفرص المتاحة، وتحقيق الريادة في المجالات التي ترى فيها تنافسيتها، والاستباق إلى درء المخاطر التي من المحتمل أن تؤثر على كيانها وديمومتها.

اليوم ثمة إشارات مستقبلية تتوافق عليها أغلب الأدبيات التي تناقش المستقبل، فعلى المستوى الاقتصادي والتجاري هناك انكفاء محتمل للعولمة التجارية، وتحول نحو التحالفات والتكتلات الإقليمية بشكل أوسع، يصحبه تعزيز لسلاسل التوريد الإقليمية في مقابل العالمية، وعلى المستوى الاجتماعي هناك صعود لطبقة وسطى عالمية جديدة، تشكل معايير جديدة في الاستهلاك والمفاهيم الاقتصادية، وهناك استمرار لتركز الثروة العالمية لدى فئات محدودة وقليلة في المجتمعات، وهناك أزمة شيخوخة عالمية ستدفع بعض الدول المتأثرة بها إلى الانفتاح في سياسات الهجرة واستقطاب العمالة، كما ستنشط سوقًا عالمية لخدمات ما يُعرف بـ "اقتصاد الشيخوخة"، وعلى المستوى العلمي ستكون التكنولوجيا الحيوية محورًا رئيسيًا للتنافس العالمي، فالتوقعات تشير إنه بحلول عام 2050، من المتوقع أن يصل حجم الاستثمار السنوي في التكنولوجيا الحيوية إلى ما يقارب 1.2 تريليون دولار ويقود ذلك استخداماتها في قطاعات متعددة أهمها تقنيات الرعاية الصحية واستخدامات الطاقة النظيفة، كما يتوقع أن تشكل سوقًا عالمية مقدارها 3.87 تريليون دولار بحلول 2030. وعلى المستوى التقني سيكون الذكاء الاصطناعي محركًا للتغير في الانتاج وأسواق العمل وتكوين المهارات والتنافسية العالمية، فعلى سبيل المثال، وبحسب ماكينزي، فإنه يمكن أتمتة ما يصل إلى 30 بالمائة من ساعات العمل بحلول عام 2030، بفضل الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى ملايين التحولات المهنية المطلوبة.

هذه نماذج لإشارات مستقبلية تتوافق عليها أغلب أدبيات المستقبل، لكن ما يجب التنبه إليه أمرين مهمين: الأول أن المستقبل يُصنع يوميًا، أحداث الساعة تصنع شكلًا من أشكال المستقبل، وطرائقنا في التعامل معها وتدبيرها والسيطرة عليها أو توجيهها تصنع أشكالًا مختلفة للمستقبل. الأمر الآخر أن الريادة لم تعد اليوم في رصد المستقبل وحده، وإنما في الطريقة التي تهيئ بها الحكومات والمؤسسات نفسها للمرونة المستقبلية. وممكن أصيل من هذه المرونة المستقبلية هو (التوافق)، ونقصد به على مستوى الحكومات أن يكون صناع القرار والقيادات التنفيذية متوافقة على الإشارات المستقبلية الأكثر تأثيرًا، وما يجب التركيز عليه، وكيف يتم التهيئ له كمنظومة حكومية واحدة. في التهيئة للمستقبل لا يمكن احتمال العمل بشكل منفصل، فالتأثيرات متقاطعة، والفرص المستقبلية تحتاج جهدًا توافقيًا وتآزريًا. وحين تكون هناك أجندة وطنية للمستقبل واضحة ومتفق على السير نحوها أو التعامل معها يصبح المستقبل جزءا من فلسفة التدبير الحكومي. وهنا لعلنا نطرح فكرة وجود مجلس وطني لاستشراف المستقبل، حيث يمكن تشكيله على مستوى القيادات الوطنية، مع وجود أذرع فنية تقوم بالأعمال الفنية والبحثية المتصلة باستشراف المستقبل، وأن تكون مهمته الأصيلة هو حشد التوافق على المجالات والقضايا والأجندة التي يمكن لسلطنة عُمان أن تركز عليها في مسارها نحو المستقبل، وتهيئة الظروف والممكنات للعمل التشاركي لاغتنام الفرص المستقبلية بطريقة استباقية، حيث يكون التخطيط ليس في اللحظة وللحظة، وإنما برؤية كوننا في المستقبل الأن، وننطلق لصنع المستقبل الذي نريد. إن وجود مثل هذه الكيانات اليوم يعتبر ممكنًا أصيلًا في صنع السياسات وتدبير الخطط التنموية، ويجعل من كلف التنمية استثمارًا فعليًا للمستقبل، ويجعل من ديمومة برامج التنمية أمرًا مضمونًا.

أخبار ذات صلة

0 تعليق