أنهيت مؤخرا تأليف كتاب يتناول دور الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية فـي التحولات المجتمعية المتعلقة بالثقافة والمعرفة والوعي وما يتفرّع منها مثل الأخلاق والقيم -يُتوقع نشره مع الربع الأول لعام 2025م-، ولعلّ الفترة الزمنية التي اقتربت فـيها من مصادر تتناول هذا الجانب المعرفـي العميق الذي تتفاعل فـيه معطيات الحضارة الرقمية ومخرجاتها مع المنظومة الإنسانية ومجتمعاتها وثقافتها أعطتني جرعة معرفـية مهمة؛ فكشفت لي حجم التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية بسبب الطفرات الرقمية التي يأتي الذكاء الاصطناعي فـي مقدمتها، ولكن فـي المقابل كشفت لي جانبا إيجابيا كبيرا يصاحب هذه الطفرات الرقمية خصوصا ثورة الذكاء الاصطناعي التي لم نعطها حقها الكافـي فـي استعراض ما أمكن أن تسهم به فـي الصناعة الثقافـية والمعرفـية وتجديد آلية تفاعلنا فـي بناء معارفنا ومنظومة حياتنا بكل جوانبها التعليمية والصحية والاقتصادية والصناعية.
سبق التعاطي مع قضية التأثيرات المجتمعية المصاحبة للثورة الرقمية، وكانت فـي مجملها ذات طابع سلبي معني بالثقافة الفردية والعامة «الجمعية»؛ فمن الملحوظ أن التأثيرات المصاحبة للطفرات الرقمية مثل وسائل التواصل الاجتماعي ذات أبعاد ثقافـية متعددة تشمل القيم الفردية التي تتحكم فـي السلوك الفردي وثقافته، وهذا ما يمتد إلى تشكيل التأثيرات الجمعية التي تحدد الصورة الثقافـية العامة للمجتمع؛ فـيُلحظ -كما تؤكد الدراسات والاستطلاعات- أن المسارات الثقافـية للمجتمعات الواقعة تحت تأثير الأنظمة الرقمية ومنصاتها أكثر عرضة للتغييرات فـي أنماطها الثقافـية التي تبدأ بالقيم وآليات الاكتساب المعرفـي وأدواته والاتصالات الاجتماعية؛ فمن حيث صناعة القيم وتبنيها، نجد أن أفراد المجتمعات المتقدمة والنامية عرضة لتأثيرات ما يمكن أن نطلق عليه بـ«العولمة الرقمية» التي تتبنى قيمًا ذات لبنة عالمية واحدة تتصل بالنظام الأخلاقي الفردي والمجتمعي، وتأتي من مصادر فـي غالبها ذات صبغة مادية محضة؛ إذ تتشكل هذه القيم وفق قاعدة الغلبة للأقوى؛ فمعظم وسائل التواصل الاجتماعي والأنظمة الرقمية بما فـيها شبكات الإنترنت والهواتف من صنع مؤسسات تتبنى القيم المادية، وتشجّع على نشرها عبر وسائل كثيرة منها أساليب الدعاية الظاهرة والخفـية، وعن طريق تقليص أيّ صعود للقيم ذات الطابع الديني أو الثقافـي الإنساني العرفـي، ولكن ماذا عسانا أن نفهم عن الجانب الآخر لتأثيرات هذه الطفرات الرقمية خصوصا تلك التي تتعلق بثقافتنا المعرفـية ووسائل اكتسابها وإنجازها؟
فـي ظل التقدّم الرقمي الذي يعتلي الذكاءُ الاصطناعي قمةَ هرمِه، نجد أن أدوات الثقافة فـي حالة متجددة بوتيرة غير معهودة؛ فتتمازج مفهومات الإبداع -التي كانت حكرا على العنصر البشري- بين الدماغ البشري والدماغ الرقمي؛ فنجده فـي صوره الكثيرة التي تكاد لا تُحصَى مثل المظاهر الثقافـية فـي الفن والإعلام والأدب والفكر والفلسفة، بل يشمل مظاهر ثقافـية أقرب إلى الوصف العلمي الدقيق مثل الرياضيات وعلوم الحاسوب وتفرعاته مثل البرمجة، ولكي أثبت حصول هذه التغييرات، أقدمت على مجموعة من التجارب التي لم تأخذ مني الوقت الطويل لتنفـيذها والتحقق منها، فقارنتها بتجارب مماثلة سابقة -تختلف فـي أدوات تنفـيذها-؛ فسبق -مثلا- أن قمت بتصميم موقع إلكتروني -بدافع التجربة وليس التخصص- قبل سنوات طويلة، وتتطلب مني عدة أيام لأنجز هذا المشروع عبر أدوات برمجية وبأساليب تقليدية مرهقة ذهنيا، وكذلك قمت قبل سنوات طويلة بتجربة فـي التصميم الفني للصور والمقاطع المرئية؛ فكانت النتائج غير مرضية بشكل جعلني أبعد النجعة عن هذا الجانب، وأطلقت العنان لبرمجة أنظمة روبوتية -أيضا قبل سنوات طويلة-؛ فأخذ ذلك مني فترة من الزمن حتى يعمل النظام وفق الغاية المرغوبة، وأما عمل شرائح العرض -البوربوينت- للأغراض التعليمية والتدريبية؛ فإنها تستهلك مني وقتا كبيرا -حتى وقت قريب- كنت أتمنى أن أختصره فـي فترة زمنية أقصر لأستفـيد من بعض الوقت فـي مهمة أخرى، وكذلك تلخيص الأوراق العلمية والبحوث المنشورة التي أرغب فـي معرفة مستجداتها المهمة دون الحاجة لبذل الجهد الكبير المستهلك للوقت.
جاء الذكاء الاصطناعي وأدواته المدهشة ليحدث تغييرا فـي كل شيء يتعلق بثقافتنا القيمية والمعرفـية من حيث أدوات الصناعة المعرفـية والثقافـية ومن حيث آلية تفاعلنا وتأثرنا الثقافـي والمعرفـي؛ فخضتُ تجاربَ جديدة مع أدوات الذكاء الاصطناعي التي غيّرت من آلية تفاعلي المعرفـي والثقافـي بمضمونه العام؛ فبمساعدة نماذج الذكاء الاصطناعي، استطعت -مثلا- أن أصمم موقعا إلكترونيا -بدافع التجربة- فـي غضون أقل من ساعتين، واستطعت أن أصمم تطبيقا ذكيا للهاتف فـي أقل من نصف ساعة، وتمكنت من فهم مستجدات مجموعة كبيرة من آخر الدراسات المنشورة فـي غضون ساعة واحدة عبر آلية التلخيص التي قلّصت لي الوقت المستهلك دون أن أفقد الكفاءة المعرفـية والبحثية، وصار من الممكن أن أوفّر وقتا كنت أقضيه فـي تصميم شرائح العرض التعليمية التي تشمل التصميم الفني -التعزيزي- المرئي. اكتشفت أن ثمّة تأثيرات إيجابية مصاحبة لهذه الطفرات الرقمية -خصوصا الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته- لم تفقدنا شغفنا المعرفـي بل -على العكس- أسهمت فـي بناء قواعد معرفـية حديثة أيقظت فـي داخلنا التنوع المعرفـي ووسائل توليده، ولعلّ بعضنا يتساءل عن مصير الجهد الذهني الإبداعي للعقل البشري ودماغه البيولوجي فـي ظل تصاعد الهيمنة الرقمية للذكاء الاصطناعي فـي مجالات الإبداع الثقافـي والمعرفـي؛ فنقول فـي ذلك إننا فـي تسارع حضاري مستمر ومتجدد، ولا يمكن أن نوقف هذا التسارع الحتمي الذي يُفرض من قبل السنن الكونية وقوانينها؛ فكانت البشرية قبل اختراع الحاسوب تسير بكل جهد فـي أعمال تحليلية وكتابية وتخزينية للمعلومات بطرق تقليدية لا يتقبّل أحدٌ فـي زماننا العودة إليها؛ فاستهلكت الوقت الكثير وأركست النمو الحضاري للمجتمعات الإنسانية، وبعد ظهور الحاسوب استيقظت البشرية على ميلاد جديد لوسائل الصناعة المعرفـية عززت من سرعتها فـي البناء الحضاري وضاعفت من جودتها دون أن يفقد إبداعُها البشري المحض طابعَه الإبداعي، بل على العكس، دفعت بالإبداع البشري الصميم إلى مزيد من التألق، وهذا ما يمكن أن نقرأه فـي واقع حاضرنا المفعم بالتفاعل الرقمي المدهش الذي اقتحم كل قطاعات حياتنا وتفاصيلها، وكذلك هذا ما يمكن أن نستشرفه فـي مستقبلنا القادم الذي يحمل فـي طياته المزيد من المفاجآت التي ستحدث ثورات حضارية إيجابية للمجتمعات الإنسانية دون أن نقلق على مستقبل الإبداع البشري الذي سيظل مرافقا لأيّ تفوق رقمي. لا يعني ذلك أننا لا نحتاج أن نقلق على مستقبل مظاهرنا الثقافـية خصوصا تلك التي تتعلق بالقيم والمنظومة الأخلاقية؛ فنحن بحاجة إلى مراقبة ماهيتنا الثقافـية بشموليتها وجميع عناصرها الفردية والاجتماعية والأخلاقية وتحديد أي تجاوزات تهدد منظومتنا الثقافـية بشكل متوازٍ من إعادة تموضعنا المعرفـي وتطويره.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
0 تعليق