مستقبل العلاقات الرقمية.. أي هويات نريد؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ بداية ظهور الإنترنت وشروع المجتمعات فـي خلق شكل جديد من أشكال التواصل الافتراضي، حلت قضايا مثل طبيعة العلاقات الاجتماعية فـي عصر الأنترنت، وتأثير الأنترنت على الهويات الفردية والجماعية والاجتماعية محل بحث أصيل فـي سياق العلوم الإنسانية، وفـي نتائج البحوث هناك مشتركات أساسية بين المجتمعات الإنسانية فـي التأثير الذي خلقه التواصل الافتراضي على (طبيعة، اتجاه، عمق، معنى) العلاقات الاجتماعية، مع اختلاف فـي درجة التأثير بحسب قوة تلك العلاقات فـي أساس واقعها من عدمها، ولكل تظل مسائل فهم الهوية الافتراضية وتشكلها وتأثيرها على الهويات الواقعية سواء كانت هويات فردية أو جماعية أو اجتماعية من أعقد المسائل التي تتغير مع مرور الوقت، وتظهر فـيها عوامل عديدة مؤثرة مثل: طبيعة الجيل، تغير أشكال الخطاب عبر الوسائل الإلكترونية، ظهور واستهداف خطابات الاستقطاب، الفعل المنظم والشبكي لتوجيه الهويات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أشكال الرقابة والخطاب المضاد وغيرها من العوامل، والتي بدورها تجعل مسار تشكل وتغير الهويات الرقمية مسارًا متعرجًا يصعب القبض عليه.

السؤال المشروع فـي هذا الجانب: لماذا علينا أن نهتم بنوعية الهويات الرقمية وتغيراتها؟ والإجابة قد توجز فـي ثلاثة أبعاد أساسية؛ أولًا، لأنها تشخص لنا وضع وطبيعة الهوية الاجتماعية الحقيقية؛ فالأفراد إما يعكسون هوياتهم الحقيقية فـي تفاعلاتهم الافتراضية، أو أنهم يميلون إلى تعديل تلك الهويات بما يتناسب مع ما يتصورونه من وضع أسمى للهوية الفردية والجمعية المرادة، أو أنهم يهربون عبر الهويات المعدلة من ضغوطات اجتماعية تلاحقهم فتغدو معها الهوية الأخرى (الافتراضية) متنفسًا لممارسة الذات الاجتماعية المرادة. وفـي هذا البعد ناقشت إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة ستانفورد مسألة الهويات الافتراضية وخلصت فـي إحدى النتائج إلى أن 54% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين شملتهم العينة - يقومون بتعديل أو تغيير جوانب من تشكيل هوياتهم على الإنترنت بهدف الظهور بشخصية مغايرة أو لجذب انتباه الآخرين. البعد الثاني فـي أهمية تتبع الهويات الرقمية ينبع من خطورة خطاب الاستقطاب والاستدراج على الأنترنت، والذي يلعب بشكل أساس على طبيعة الهويات الافتراضية المشكلة، كما يتماهى أيضًا مع طبيعة الشخصية الاجتماعية المراد تشكيلها على فضاءات الأنترنت، فـي دراستهما للعلاقة بين الاستقطاب عبر الإنترنت وسياسات الهوية يقول تومي كوتنين وعلي أونلو أنه «غالبًا ما تخلق هذه المنصات بيئات تُعرف باسم «فقاعات التصفـية» و«غرف الصدى»، حيث يتعرض المستخدمون فـي المقام الأول لمحتوى يتماشى مع آرائهم واهتماماتهم الحالية وتساهم الميزات الخوارزمية لهذه المنصات فـي التعرض الانتقائي وتشكيل غرف الصدى، مما يؤثر على مواقف وسلوكيات الأفراد. لا تعمل هذه الظاهرة على تعزيز تحيز التأكيد فحسب، بل تعمل أيضًا على توحيد المجموعات الداخلية، مما يزيد من تعميق الاستقطاب بين المجموعات المجتمعية المختلفة. البعد الثالث، فـي أهمية دراسة الهويات الرقمية هو انعكاس هذه الهويات فـي تشكيل الأدوار الاجتماعية الواقعية، وهو ما يمكن أن يكون تحديًا أمام دور العمليات والمؤسسات الاجتماعية فـي تشكيل عمليات التنشئة ورسم الأدوار الاجتماعية، ولتوضيح هذا البعد أجرينا مسبقًا دراسة فـي 2018 حول تشكل الهويات الرقمية وارتداداتها على دور المؤسسات الاجتماعية فـي خلق الأدوار الاجتماعية، ولعل من أبرز النتائج التي خلصت إليها دراستنا أن 63% من عينة الدراسة ممن هم فـي السن بين (18 - 24) عامًا يشعرون أن المجتمع فـي الواقع يدفعهم لتقديم شخصية محسنة لذواتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فـي حين عبر أكثر من 38% من ذات العينة فـي ذات المرحلة العمرية أن مواقع التواصل الاجتماعي تتيح لهم مساحة أفضل لممارسة ذواتهم الحقيقية.

يبقى سؤال الهوية الرقمية معقدًا وعصيًا على الجزم، وهذا الاستعصاء هو الذي تحدثت عنه نانسي بايم محورًا لكتابها «Personal Connections in the Digital Age» حيث تقول: «لا تتيح لنا التكنولوجيا فقط بناء علاقات مع الآخرين، بل تسمح لنا أيضًا بإعادة تشكيل هوياتنا بطرق لم تكن ممكنة من قبل، مما يخلق فضاء جديدًا لاكتشاف الذات وتقديمها». إذن هناك ثلاثة مخاطر يفرزها مستقبل علاقاتنا وتفاعلاتنا الرقمية ويطرح سؤال: أي هويات نريد؟ أولها، مسألة النزوع من ضيق السياق الاجتماعي الحقيقي إلى السياق الافتراضي للتعبير عن الذات، وثانيها، خلق هويات وشخصيات أكثر قابلة للاستدراج والاستخطاب والاستهداف بالخطابات المختلفة، وثالثها، إعادة إنتاج الأدوار الاجتماعية للأفراد والجماعات من خلال فواعل من غير نسيج المجتمع. هذه المخاطر الثلاثة تشكل فـي ذاتها مساحة لبروز المشكلات الاجتماعية المرتبطة والناشئة عن التواصل الافتراضي، فالشخصية التي تقود خطابًا ناقمًا ومهاجمًا وهدامًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال دون أن يكون ذلك متوقعًا من ذات طبيعة الشخصية وتركيبتها فـي الواقع الحقيقي هي نتاج لأزمة الهوية الرقمية التي تحدثها المخاطر الثلاثة.

يبقى الرهان على أساليب المعالجة والمواجهة، وفـي تقديرنا فإن دور المؤسسات الاجتماعية فـي خلق فرص ومساحات أفضل للأفراد للتعبير عن ذواتهم الحقيقية، واحتواء أشكال التعبير مهما كانت غرابتها وحدتها فـي إطار اجتماعي متسق هو الرهان الأول لاحتواء تعقيد الهويات الرقمية، فمتى ما كانت مؤسسات التعليم والمؤسسات الثقافـية والإعلامية فـيها من المساحة الكافـية المقرونة بالتوجيه المناسب للأفراد ما يمنحهم مساحة أفضل لممارسة أفكارهم وتعديلها وتصويب معتقداتهم وتمكين ذواتهم متى ما كان الانفصال بين الهوية الواقعية والهوية الرقمية أقل وكان تأثيره على الأزمة الاجتماعية أقل كذلك. يبقى الحوار الاجتماعي بأشكاله المختلفة وبمفهومه المتسع هو الأداة الأمثل لتشكيل الهوية كما يريدها المجتمع، لا كما تريدها خطابات الاستقطاب والاستدراج.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق