دروس إغريقية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مع كل كتاب، يتكشف لنا العالم «الساحر» الذي بنته الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج (حائزة نوبل للآداب لهذا العام) فـي رواياتها، على الرغم من أن عالم الفقدان والحرب والمجازر والقتل هو الذي يسيطر على غالبية كتبها، أي هذا العام الذي يشكل جزءا من حاضر التاريخ، تاريخ بلادها. ربما هنا تكمن عَظمة الأدب، أي قدرته على بناء حياة موازية للعالم الواقعي، على بناء تاريخه الخاص، لدرجة أنك تتناسى التفكير بما جرى فـي الحقيقة، ليصبح، أي الأدب، هو الحقيقة المطلقة، على الرغم من أنه يُبنى فـي مجمله، على المتخيل؛ بيد أن هذا المتخيل يملك القوة ليطرد كلّ شيء ويحل مكانه ويصبح الحقيقة المطلقة.

وفق هذا المناخ، تأتي رواية «دروس إغريقية» لـ هان كانج ــ (وأعتمد هنا على الترجمة الفرنسية، فالكتاب صدر فـي ترجمته العربية منذ فترة وجيزة، ولم يتسن لي بعد الاطلاع عليها) - التي تأخذنا مرة جديدة فـي رحلتها الخاصة، رحلة البحث عن التواصل مع الآخر واكتشافه. لذا نسأل بداية، ما هي هذه الدروس الإغريقية؟ إنها رواية هذه النعمة المُعاد اكتشافها، عبر شخصيتي الكتاب: امرأة ورجل. امرأة فقدت صوتها أما هو فقد دخل فـي مرحلة فقدان البصر تدريجيا. حين فقدت صوتها. لم يعد هناك أي صوت يخرج من فمها، ولا حتى للتواصل مع ابنها الذي فقدت حضانته بسبب هذا الصمت القسري. منذ ذلك الحين، أصبحت حياتها رمادية، لذا للتخلص من الرتابة، ذهبت إلى مدرسة لتأخذ دروسًا فـي اللغة اليونانية القديمة (الإغريقية). أما هو فقد كان يعاني من ضمور العين. عاش فـي ألمانيا لكنه اختار العودة إلى وطنه كوريا على الرغم من صعوبة العيش فـي عالم يحل فـيه الظلم تدريجيا. وفـي هذه المدرسة كان هو أستاذ اللغة اليونانية القديمة.

مع القراءة، نكتشف أن جراحات هاتين الشخصيتين متجذرة من مرحلة شبابهما، ما جعلهما ينقطعان على العالم. وبفضل حادثة ما، عابرة، أي من خلال هذا اللقاء البديع والمؤثر بين كائنين منغلقين على نفسيهما سيتعرفان على نفسيهما فـي هذا «العالم الزائل والجميل» ويحاولان الانفتاح شيئًا فشيئًا. يبدآن بالتقارب من بعضهما البعض، وببطء، يستعيدان اكتشاف هذه الرغبة فـي التواصل بينهما، هذه الرغبة فـي التخاطب. لذا تبدو هذه المحاولة أكثر من كونها محاولة فـي المرونة، وأبعد من تكون محاولة للصمود فـي وجه الحياة، بل لنقل إنها قصيدة رائعة لمحاولة إعادة بناء إنسانية الكائن. بمعنى أننا أمام كتاب، تبدو فـيه جميع الأصوات أصواتا مكتومة، «ممتصة» كتلك التي تحدث عند تساقط الثلوج، لتبطن الأجواء بما يشبه الموت، لكن مع ذلك لا يمكن التغاضي عمّا ينجبه ذلك كله من ألم عنيف، لا يمكننا إلا أن نصغي إليه. إذ سرعان ما يترك القارئ نفسه ينجذب إلى هذا «الحزن الرقيق» الذي يسكنه والذي يعطي كل جمال هذا الكتاب المؤثر.

تدفعنا واحدة من أهم خاصيات قراءة هذه الرواية، إلى أنه لا يجب أن نتوقف عند صمت المرأة أو نظرة الرجل الغائبة. هذه الاختلافات ليست علامة على اللامبالاة. بل على العكس تماما. ثمة «فرح» خفـي ينتابنا حين نرى قصتهما تجتمع معًا، حيث تجعلهما «إعاقتهما» كائنات منفصلة. هل لأننا لا نتحدث لا نشعر بهذا الشعور الغريب الذي قد يظهر أحياناً تحت مسمى الحب؟ ذات ليلة ينيرها زرقة قمرها، سيشارك كل واحد منهما مشاعر الآخر. ينظر بنظارات مكسورة، وتتلامس الأيدي وتقطع، ويتم تبادل الكلمات فـي اتجاه واحد، والاستماع من الروح إلى الروح. يتكلم، تجيبه بإمساك يده. تنظر فـي عينيه، إلى عمق الروح، يشعر بعطرها المحيط به. علامات الحب التي تمر دون كلمات، ليل صامت والنافذة إلى الخارج مغلقة.

«دروس إغريقية» عبارة عن وحدتين تصطدمان ببعضهما البعض، وتتهربان من بعضهما البعض، وينتهي بهما الأمر بالاجتماع معًا. قصة يمكن أن تكون مبتذلة (عند البعض)، رجل وامرأة يلتقيان والباقي واضح بذاته. لكن هان كانج لا يمكنها الاكتفاء بكتابة قصة حب بسيطة، إعجاب، حب من النظرة الأولى. لا، فهي تحكي قصة حياتين متضررتين تتقاطعان بالصدفة. الليل الذي يرد الصمت. مشاعر بدون صوت أو صورة. التبادلات التي قد يعتقد المرء أنها فـي اتجاه واحد، لكن كلام أحدهما يقابل بضغط من يد الآخر، وصمت أحدهما يترك مجالاً لثقة الآخر. لليلة واحدة، يكتفـيان بأن يكونا حضورًا وعزاءً، وربما يتولد الأمل من عدم بقائهما وحيدين.

نحن أمام درس حياة كامل تقدمه لنا هان كانج من خلال هذا الدرس الإغريقي. وبخاصة أن مسارات هذين الكائنين تتقاطع بفضل لغة «ميتة»، الإغريقية. هذه اللغة التي تبهر المرأة التي لا صوت لها، يتعلمها الرجل الذي سيصبح أعمى قريبًا. كل منهما لديه مسار حياة فـي السقوط الحر وأغلبية الرواية تشرح لنا كيف تمكنا من التواصل لأننا نتذكر، المرأة لا تتكلم والرجل بالكاد يرى بعد الآن.

فـي إحدى اللحظات يقول لها: «ألا تجدين الأمر غريبًا فـي بعض الأحيان؟ نرجو أن تكون لجسدنا جفون وشفاه. سواء كان من الممكن إغلاقها من الخارج أو قفلها من الداخل». جملة قد تشير إلى غرابة هذه الرواية «الغريبة» بالتأكيد. حيث الشعرية تفرض نفسه على الكاتبة كما على القارئ. وكأن الرجل أحياناً يرى والمرأة تتكلم، والعكس صحيح. وينتهي كل ذلك بتأليه إعادة بناء الذات.

«دروس إغريقية» رواية عن الضوء والظل (فـيما لو جاز القول)، وهي أيضا رواية جميلة وشاعرية، بطيئة ومؤثرة. تفاجئنا فـيها الكاتبة، بعالمها الذي ربما لم نعتد عليه، نحن الذين تشكل الرواية الغربية مرجعه الأكبر. ثمة أدب فـي العالم، يبعد عن ذلك. أدب كبير. ربما علينا أن نكتشفه فعلا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق