الأسبوع المنصرم، اتجهت أنظار المشهد الثقافي في عُمان تجاه الإعلان عن الفائزين بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وذلك عن دورتها الحادية عشرة، والجائزة إذ تكمل هذه الدورة لتترك من خلفها إرثًا من التأصيل والعناية بالمشهد الثقافي والمثقفين، باتساع مفهوم الثقافة وأبعادها، فقد أبرزت الكتّاب في مختلف الأشكال الكتابية، والرواة، والشعراء، وصناع الأفلام والسينما، والباحثين في العلوم الإنسانية بتفرعاتها، والفاعلين الإعلاميين، وكرّمت مسيرة جملة من الفاعلين الثقافيين العرب، في الوقت ذاته الذي توّجت وأبرزت فيه أسماء لامعة ومشتغلة اشتغالًا جادًا بالفعل الثقافي المحلي، ولعل أهم ما يميز الجائزة -علاوة على قيمتها المادية والمعنوية والاسم الذي تحمله- هو التجديد في مجالاتها، والنظر الموزون حسب المجالات، إما إلى الابتكار في الأعمال المقدمة، أو الإرث الذي قدمه المشارك، وخاصة فيما يتعلق بالجائزة التقديرية، إضافة إلى التزامها بإثراء المشهد الثقافي من خلال المعايير العملية التي تحددها لشكل الإنتاج الثقافي الذي يستحق أن يُكرّم ويُخلّد.
أما فيما يتصل بالأسماء التي حازت الجائزة في دورتها الحالية، فقد امتازت بكونها أسماء شبابية خالصة، من المبدعين في الفعل الثقافي العماني، فقد حاز الإعلامي أحمد الكلباني عبر برنامجه «شاهد فوق العادة» على الجائزة عن «فرع الفنون» وفي مجال البرامج الإذاعية، فيما حصلت الشاعرة شميسة النعمانية على الجائزة عن «فرع الآداب» وفي مجال الشعر العربي الفصيح.
ولعلي متابع للمنتج الفائز عن مجال البرامج الإذاعية، وقد وجدت فيه ثلاث سمات أساسية، أولها محاولة البرنامج إضفاء التجديد والابتكار على نمط البرامج الإذاعية، وذلك من خلال المزج بين السرد الإذاعي والتمثيل، وثانيها أن البرنامج يحاول التقاط مشهد الحياة اليومية، ولكن بالطريقة التي تجعل المتلقي أيضًا في حال التساؤل وتكرار ذلك التساؤل، وثالثها أن البرنامج يوازن ذاته بين الطرق المبتكرة في إنتاج البودكاست وبين كونه برنامجًا يصلح للعرض والبث على الإذاعة بصورتها التقليدية، وهذا نموذج في تقديري يحفز على أن يكون الفعل الثقافي مبتكرًا، ومجددًا، ومنافسًا، وهو ترجمة أصيلة لتحقيق أحد أهم أهداف الجائزة والمتمثل في «غرس قيم الأصالة والتجديد لدى الأجيال الصاعدة، من خلال توفير بيئة خصبة قائمة على التنافس المعرفي والفكري، وفتح أبواب التنافس في مجالات العلوم والمعرفة القائم على البحث والتجديد».
ويجد المتتبع للدورات السابقة من الجائزة أن الأعمال والأسماء الفائزة فيها تؤكد على أربع قيم أساسية في حقل الاشتغال الثقافي، في تقديري هي الاشتغال الجاد، والالتزام بأصول الحرفة وتأصيلها المعرفي، ومحاولة الابتكار والتجديد، والقيمة المضافة للحقل أو المجال الذي ينشط فيه الفاعل الثقافي.
ولنا أن نستذكر من قائمة الفائزين فرقة مسرح الدن للثقافة والفن، التي قدّمت أعمالًا مسرحية رائدة في مجال الفرق المسرحية، وكان لها الدور في بروز أسماء لامعة في المسرح العُماني، وحظيت أعمالها وعروضها بشعبية وحضور في مختلف المحافل لما تحمله من تركيز على رسالة النص، وعلى الالتزام بمعايير الأداء المتميزة لممثلي عروضها.
ولنا أن نستذكر أيضًا فوز المكرم الأستاذ الدكتور عبدالله بن خميس الكندي في مجال دراسات الإعلام والاتصال، فعوضًا عن تجربته الأكاديمية الواسعة وتخرج أسماء بارزة في حقل الصحافة على يده؛ فقد قدّم الكندي كذلك دراسات معمقة لحقل الدراسات الاتصالية، سواء عبر تتبع تاريخ الصحافة العُمانية وروادها وتأثيرها، أو البحث والتحليل في السياسات الإعلامية، أو تتبع التغطيات الصحفية للحروب والأزمات.
هذه نماذج لأسماء مهمة ونشطة قدّمتها الجائزة وقدّرتها، وهي امتداد لأسماء أخرى في مختلف دوراتها ومجالاتها.
إذن، تقدّم الجائزة عنصرًا مهمًا من عناصر تجويد الفعل الثقافي في عُمان، ولكن هناك سؤالان مزدوجان تفرض الحالة الثقافية طرحهما، لماذا نحتاج إلى توسعة الفعل الثقافي في عُمان اليوم؟ وما الذي يحتاجه الفعل الثقافي ليؤدي دوره الوظيفي المنشود في المجتمع؟
الفعل الثقافي، في وظائفه المختلفة، إنما هو في تقديرنا فعل تأصيل، وفعل ترويح، وفعل تنوع، وفعل حفظ للذاكرة، وفعل استنهاض، وفعل استشعار، وفعل تخييل، وما أحوج المجتمع اليوم إلى هذه المعادلة المهمة، فبالفعل الثقافي نؤصل القيم والأخلاقيات المهددة، ومعه يروح المجتمع عن ضغوطات الواقع المعاش، وعن تعقيد الحياة وتراكماتها، وهو حفظ لأصل التنوع في المجتمع ومحفز للاندماج بشكل أكبر بين مكوناته وأطيافه، وتأكيد على انصهاره، وهو كذلك فعل حفظ لذاكرتنا التاريخية والثقافية واللحظية، ونقل تلك الذاكرة عبر الأجيال بفنون وأفعال مختلفة، وهو استنهاض للواقع واستشعار لما يعتريه من مشكلات خافتة وأزمات بائنة وغير بائنة، كما أنه فعل تخييل للمستقبل، وللواقع المرجو والمتصور والمأمول؛ ولكن لكي تتحقق كل تلك الأدوار والوظائف للفعل الثقافي، فإنه مطالب اليوم بأن يكون أكثر قربًا من مجتمعه، وأكثر تلامسًا مع الحياة المعيشية، فالمسرح اليوم يجب أن يجوب كل الولايات العُمانية، ويتخذ من المسارح المفتوحة والمتلاقية مع حياة الشارع نهجًا ليستمر ويؤثر، وكذا يسري ما يسري على القصيدة، والرواية، والفيلم، والدراسة العلمية، والفن الشعبي، والتصوير، والرسم، والنحت، والتشكيل، ومختلف أنواع الفعل الثقافي.
إن جزءًا من التنمية المحلية في تقديرنا ينبغي أن يُوجَّه اليوم إلى الكيفية التي يمكن من خلالها أن يكون الفعل الثقافي حاضرًا في كل بقعة ومستمرًا، وليس مقتصرًا على المهرجانات الكبرى أو على الفعاليات المركزية، وليس بالضرورة أن يكون فعلًا غارقًا في المؤسسية، بل إن يكون من الناس ومتفاعلًا معهم، يضفي لحياتهم المعنى المنشود، ويحقق في ذاته الرسالة الأصيلة للثقافة والفعل الثقافي.
0 تعليق