المتغير الاجتماعي.. دلالات البناء - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من المؤشرات المهمة في حياة المجتمعات والتي على أساسها تقاس ديمومة المجتمع وديناميكيته وحيويته هو مستوى المتغير الاجتماعي الذي يعيشه أي مجتمع على هذه البسيطة، ولعله الوحيد الذي يمكن أن يؤدي هذا الدور، بخلاف كل المتغيرات الأخرى، كالمتغير الاقتصادي، والمتغير الثقافي، وقد ينظر إلى هذين المتغيرين على أنهما نتاج للمتغير الاجتماعي، مع التسليم أنه ليس هناك متغير ديني «عقائدي» قابل لأن يحمل مفهوم المتغير، فالدين يقبل بالجملة، أو يرفض بالجملة، وليس هناك خيار ثالث، بخلاف المتغير «العقدي» الذاهب إلى مجموعة من العقائد والتي هي من صنع البشر، كالعقيدة العسكرية، والعقيدة السياسية، فهذه كلها قابلة لأن تقع تحت مفهوم المتغير، وذلك لانتسابها إلى البشر، فالبشر من المتغيرات، فكرا وسلوكا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينسب الثبات إلى البشر، فالإنسان - كما هو معروف - حمالة أوجه كل يوم في شأن من شؤون الحياة، فما تجده على حالة ما في الصباح، تجده على حالة مغايرة في المساء من اليوم ذاته، ولعل ذلك عائد إلى قصور معرفته، وضعفه، وقلة حيلته، ولعل في ذلك رحمة له، حيث تقبل توبته واعتذاره بسبب هذا الضعف الملازم لحياته في تصرفاته وسلوكياته مع نفسه، ومع من حوله.

ويقاس المتغير الاجتماعي بكثير من الأدوات بعضها من الملحوظات العامة من السلوكيات والممارسات، وبعضها مما تعكسه الأرقام، وبعضها الآخر مما يخضع للدراسات الاجتماعية المختلفة التي يقوم بها ذووا الاختصاص في العلوم الاجتماعية على وجه الخصوص ولأهمية المتغير الاجتماعي فإن تأثيراته تنعكس على مجمل المتغيرات: الاقتصادية والثقافية، والسياسية، ولذلك يحظى المتغير الاجتماعي بأهمية خاصة عند دراسة المجتمعات البشرية، في جميع حالاتها من الفقر والغنى، والتقدم والتخلف، والمعرفة والجهل، وللحصول على نتائج حقيقية لا بد من وجود حالتي التناقض عند الدراسة، فلا يمكن أن تدرس حالة مجتمع يحظى بكثير من الرفاهية، ويجزم بطلاقة النتائج المتحققة للمتغير الاجتماعي، أو تدرس حالة مجتمع غارق في الفقر والجهل، ويجزم كذلك بطلاقة النتائج المتحققة للمتغير الاجتماعي، مع أن كل المجتمعات تعيش حالتي الغنى والفقر على حد سواء، ولكنني أذهب هنا أكثر إلى أهمية دقة النتائج للمتغير الاجتماعي، وهذه الدقة لا بد أن ينظر إلى جميع تراتبيات المجتمع، أو مستوياته المختلفة، وذلك للخروج بنتائج حقيقية يمكن البناء عليها لمعالجة مجموعة الثغرات إن كانت هناك ثغرات على المستوى الأفقي للمتغير الاجتماعي، أو على المستوى الرأسي، مع أن المتغير الأفقي أكثر وضوحا، وملمسا، لأنه يعكس مجموعة المظاهر الاحتفالية التي يبديها أفراد المجتمع، وهي المظاهر المعبرة عن المتغير، كالسلوكيات، والملابس، واقتناء الأدوات، أما المتغير الرأسي، فهو يذهب إلى الفكر والقناعات والمواقف التي يبديها أفراد المجتمع، والتي تمثل ظاهر جديدة غير مألوفة من قبل، وهي تعكس أبعادا معرفية وأخرى سلوكية ترافق المتغيرات الاجتماعية، وهي ليست شرا بالمطلق، ولا خيرا بالمطلق حيث تضم بين جوانبها شيئا من الخير وأخرى من الشر، ومع ذلك تظل هذه المتغيرات مؤشرا مهما لتطلعات أفراد المجتمع للبحث عن شيء جديد يتوافق مع ما يشعرون به «ذاتيا» من إحداث شيء يقودهم إلى مرحلة جديدة في حياتهم، ومجمل ما يحدث يقينا لن يلقى ذلك الترحيب من قبل آخرين يرون في المتغير الاجتماعي خروجا عن ما هو مألوف، ولذلك لا يستبعد أن يناصرونه العداء، انطلاقا من حرصهم على هويتهم، وانتماءاتهم المختلفة، وهو ما يسمى بـ «صراع الأجيال» مع أنه صراع إيجابي، يسفر عن وجه جديد للمجتمع ككل.

هل للمتغير الاجتماعي استحقاقات ولا بد من توفرها حتى ينمو نموا سليما، ولا يخرج كثيرا عن ما هو مألوف؟ لعل من أبجديات التفكير في الإجابة عن هذا السؤال تذهب إلى التالي: وهي لا بد من تحقق بيئة متوازنة لنمو المتغير، ومنها: قوانين وأنظمة تراعي متطلبات الواقع لأن في ذلك حماية لقيم المجتمع، وعدم تماهيه المطلق، وفي ذلك حفاظا على هوية المجتمع، ومن ذلك أيضا الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، وهذه مسؤولية فردية، فكل فرد في المجتمع لا بد أن يكون حريصا وسط هذا المتغير، ويدرك إدراكا تاما أنه ينتمي إلى أسرته الصغيرة، وإلى أسرته الكبيرة الحاضنة وهو الوطن، وقد يتضمن هذا الاستحقاق تشجيع المواهب والإبداعات الشبابية، فالمتغير الاجتماعي لا يقتصر فقط على المظاهر السلوكية، ولكن يذهب إلى أبعد من ذلك وهو البحث عن الجديد، وهذا البحث لا بد أن يظهر نتائج جديدة، وربما تكون غير مألوفة، ولعل النموذج الأوضح اليوم عندنا هنا في سلطنة عمان هو النموذج الذي يقدمه شباب ولاية نزوى على وجه الخصوص، وهم المنتمون إلى مجتمع محافظ على درجة كثيرة من الخصوصية، ومع ذلك لم ينكمش جهد هؤلاء الشباب وفق هذه الخصوصية، وإنما سطر نماذج رائعة من الأعمال الإبداعية في مجالات السياحة على سبيل المثال وفي مجالات الاعتماد على النفس، وفي مجال كسر حاجز مجموعة من الصور النمطية المرسومة «ظلما» عن الشباب العماني بشكل عام، هذا نموذج ماثل ولا يحتاج إلى كثير من الثناء، ويمكن أن يقاس عليه مجموعة من النماذج الناشئة على مستوى السلطنة، وهو بالفعل متغير اجتماعي على درجة كبيرة من الأهمية، ولا يجب فقط تشجيعه، وإنما دعمه ماديا ومعنويا، وإعلاء صوته ورمزيته الخاصة المنتمية إلى مجتمعه المحدد بجغرافيته المعروفة، مع الأمل الكبير في أن تستنسخ هذه التجربة في ولايات أخرى على امتداد سلطنتنا الحبيبة.

منذ سنوات مضت، زرت إحدى الدول الإفريقية، وما لفت انتباهي أكثر هو وجود محلات تحمل لافتات ذات علامات تجارية عالمية، مع أن الدولة تصنف على أنها من الدول الفقيرة، وقد زرت بصحبة رفقاء الرحلة أسرا تعيش فقرا مدقعا بمعنى الكلمة، ومع ذلك فهناك أطفال أو في عمر الشباب يرتدون ملابس ذات العلامات التجارية العالمية، فالفقر هنا لم يكن حائلا دون أن تصل هذه المنتوجات التي تجدها في أرقى المدن العالمية «ماديا» والسؤال هنا هل هذا السلوك - ارتداء ملابس لعلامات تجارية عالمية - يعد متغيرا اجتماعيا في بعده الأفقي؟ والجواب نعم وفي بعديه الأفقي والرأسي على حد سواء، لأن مظهر ارتداء الملبس بعد أفقي، ولكن القناعة بضرورة أو أهمية لبسه هو بعد رأسي، والخروج من مظاهر حالة الفقر والبؤس بارتداء هذا اللباس، هو متغير اجتماعي بامتياز، لذلك نحن نعتب على سبيل المثال عندما نعرف أن شابا من الحي الذي نسكن فيه، أو القرية أنه اشترى سيارة فارهة مع معرفتنا بحالته المادية، وربما حالة أسرته، فعتابنا هذا ينطلق من وجهة نظرنا الشخصية نحن الذين لا نستحضر تأثير المتغير الاجتماعي في الآخرين، ولكن لو أجريت دراسة علمية على هذا الشاب، أو كثير من الشباب الذين يخرجون عن المألوف وعن الصور النمطية التي يرسمها الآخرون لهم، ستخرج الدراسة بأن ما يقومون به من سلوكيات سواء اقتناء الأدوات المتميزة، أو القيام بسلوكيات تتقاطع مع ما اعتاد عليه المجتمع، هو من صميم المتغير الاجتماعي، ومعنى هذا أن المتغير الاجتماعي لا يخضع لديمومة الصور النمطية التي يحاول البعض تكريسها والحكم بخلافها على أنه خروج عن سمت المجتمع، وعن أسسه وقيمه المتعارف عليها إطلاقا، وإنما هو تعبير فارض نفسه بحكم ما يجيش في النفس من ضرورة الخروج عن المألوف والمعتاد، وهو صميم المتغير الاجتماعي.

هل تقيم حقيقة المتغير الاجتماعي على أنها على طرفي نقيض؟ بناء وهدم؟ وإذا كانت بناء بالمطلق فماذا عن مجموعة منجزات المجتمع في مراحل متقدمة؟ وإذا كانت هدم بالمطلق فماذا عن قدرة الإنسان على الخروج من مأزق الصور النمطية المملة، وغير المعبرة عن طموحات الإنسان الذي يسعى إلى تغيير حالته الصفرية إلى شيء من الخروج عن المألوف؟ مع الأخذ في الاعتبار أن التجارب الإنسانية قائمة على هاتين الحالتين، وذلك بنسب مختلفة، ولا توجد نهايات مطلقة بالمرة في حياة الإنسان، وذلك حتى يتاح له تكرار خوض التجربة مرات ومرات.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

أخبار ذات صلة

0 تعليق