يشهد عالمنا الراهن صراعات عنيفة بين الدول والتكتلات السياسية، سواء كانت في العلن أو الخفاء. تبلغ هذه الصراعات ذروتها لتعبر عن نفسها بشكل علني في الحروب التي نشاهد ويلاتها كل يوم على شاشات التلفاز وتلاحقنا أخبارها في الصحف وفي كل المواقع الإخبارية. لم يكد العالم يهنأ بحالة من الهدوء النسبي بعد الحرب العالمية الثانية حتى اندلعت الصراعات والحروب مجددًا في كل مكان، على نحو يهدد بنشوب حرب عالمية ثالثة. وكأن البشر لا يستطيعون العيش من دون صراع؛ لأن الصراع والعدوان متأصل في طبيعة البشر ولكنه يتخذ في كل عصر أشكالًا جديدة. هذا القول صحيح في مجمله كما يشهد بذلك التاريخ وكما شهد بذلك كثير من كبار الفلاسفة؛ ولكن هذا يستدعي السؤال عن طبيعة الصراع في عالمنا الراهن وتفسير مبرراته ودوافعه، ولنتساءل أولًا: صراع مَن ضد مَن؟
ربما أمكن رصد ميدانين رئيسين للصراع يعد الغرب طرفًا أصيلًا في كل منهما، وهما: الصراع بين الغرب والكتلة الشرقية ممثلة في روسيا والصين بوجه خاص، والصراع بين الغرب والعالم الإسلامي والعربي بوجه خاص (وميدانه الرئيس هو منطقة الشرق الأوسط). ولقد سعى هنتنجتون إلى تفسير الصراع العالمي الراهن باعتباره «صراع حضارات»، وهو مفهوم أصبح رائجًا منذ ظهور كتابه الشهير بعنوان «صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي» الصادر سنة 1996؛ ولقد حاول البرهنة في هذا الكتاب على أن الصراع العالمي الآن يعد صراعَ حضارات، أي صراعًا ثقافيًا بين الأصولية الغربية والأصولية الإسلامية. ولذلك فإنه يصور لنا مفهومه الخاص في «صراع الحضارات» على أنه صراع بين الغرب (وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها مركز ثقل هذه الحضارة وقوتها) وسائر الحضارات الأخرى: كالحضارة الإسلامية وحضارة جنوب شرق آسيا (وخاصة الصين). ولقد بينت في مقال سابق بهذه الجريدة الرصينة مدى تهافت نظرية هنتنجتون التي لا تسعى إلى السلام بقدر ما تسعى إلى تبرير الصراع والعدوان؛ فالحضارات تتلاقح ولا تتصارع إلا في مرحلة أفولها وإفلاسها، وهذا ما تشهد به نشأة الحضارات وتدهورها عبر التاريخ.
لقد بدأ المشهد العالمي ينذر بأفول الحضارة الغربية وإفلاسها، وهذا ما يفسر لنا سياسات الحرب والعدوان والهيمنة التي تتبناها هذه الحضارة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي نجدها حاضرة في كل أشكال الصراع العالمي بهدف النفوذ والهيمنة على ثروات ومقدرات الدول بكافة السبل: السياسية والاقتصادية والعسكرية إذا لزم الأمر. ولذلك فمن الطبيعي أن نسأل عن مشروعية وصف هذه الحضارة الغربية الآن بصفة الحضارة؟ فأية حضارة تلك التي تقوم على العدوان، وعلى الهيمنة، وعلى العنصرية من خلال الاستعلاء على الآخر بما هو «آخر» (حتى إن هنتجتون قد وصف هذا «الآخر» باعتباره «البقية» في فصل من كتابه بعنوان «الغرب والبقية» The west and the rest)؟ ومن الواضح أن هذه العنصرية تتنامى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية بعد وصول ترامب إلى الحكم؛ إذ يتبنى علنًا سياسة رفض واستبعاد كل الملونين من غير البيض من جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم- بطبيعة الحال- العرب المسلمين!
وربما يفسر لنا هذا دعم الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، وهو يشمل دعم إسرائيل في حروبها وعدوانها في المنطقة بالمال وأحدث الأسلحة الفتاكة، بل بالضلوع في الدفاع العسكري عنها. ويشمل ذلك أيضًا الدفاع السياسي عنها بطريقة لا أخلاقية فجة من خلال استخدام حق الفيتو دائمًا في نقض القرارات الدولية بوقف الحرب والعدوان في فلسطين، رغم اتهام المنظمات الدولية باتهام إسرائيل بارتكاب حرب إبادة، ورغم قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتبار قادتها مجرمي حرب، ورغم موافقة معظم الدول الأوروبية على هذا القرار (وهو ما ينذر ببداية تصدع في موقف الغرب: الغرب الأوروبي والغرب الأمريكي). وفي ضوء هذا ينبغي أن نفهم وضعية إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط: فما إسرائيل سوى أداة لهيمنة الغرب الأمريكي على المنطقة، وتحقيق المشروع الصهيوني في تمديد حدود إسرائيل إلى ما يسمى بالحدود التوراتية. تبدأ هذه الهيمنة بالترويج لسياسات التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يهدف في النهاية إلى طمس الهوية العربية والتماهي مع سياسات وقيم الكيان التي هي امتداد لسياسات وقيم المشروع الغربي. وهذا يفسر لنا العنف الشديد في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة باعتبارها حركات ينبغي سحقها.
هل من سبيل إلى إنهاء أو تخفيف الصراع العالمي وتحقيق السلام بين البشر؟ كان هذا حلم كانط الذي أودعه كتابه «مشروع للسلام الدائم». ولكن هذا غير ممكن إلا بتغيير النظام العالمي نفسه بحيث يكون أي مشروع للسلام العالمي ملزمًا من جانب المنظمات الدولية وفقًا لعقد عالمي جديد، بحيث يحق للدول الموقعة على هذا العقد استخدام القوة في عقاب الدول المارقة؛ فكما قال هوبز: إن العهود والمواثيق من دون سيف يحميها ليست سوى كلمات.
0 تعليق